ملفات وحوارات

بعد ارتفاع التصنيف الائتماني.. كيف عبرت مصر من نفق الأزمات للنضج المالي؟

في خطوة تُعد تتويجًا لجهود الإصلاح الاقتصادي التي تبنتها الدولة خلال السنوات الأخيرة، أعلنت مؤسستا «ستاندرد آند بورز» و«فيتش» عن رفع وتثبيت التصنيف الائتماني لمصر مع نظرة مستقبلية مستقرة، وهو ما يمثل تحولًا نوعيًا في مسار الاقتصاد المصري ويعكس انتقاله من مرحلة المعالجة الطارئة للأزمات إلى مرحلة أكثر استقرارًا ونضجًا ماليًا.

فقد رفعت ستاندرد آند بورز تصنيف مصر من B- إلى B، مشيرة إلى أن الاقتصاد المصري يسير على طريق التعافي الحقيقي، مدعومًا بسياسات مالية ونقدية أكثر توازنًا، وبالتزام واضح بسياسة سعر صرف مرنة عززت من قدرة الدولة على امتصاص الصدمات الخارجية. كما أشادت المؤسسة ببرنامج التعاون مع صندوق النقد الدولي الذي وفر إطارًا داعمًا للإصلاحات الهيكلية، وأسهم في استقرار معدلات النمو وتراجع التضخم وتحسن مستويات السيولة النقدية.

وفي السياق ذاته، أكدت فيتش تثبيت تصنيف مصر عند B مع نظرة مستقرة، لكنها لفتت إلى أن الأساسيات الاقتصادية أصبحت أكثر متانة مقارنة بالسنوات السابقة، مدفوعة بزيادة الإيرادات العامة وتراجع العجز المالي. وتوقعت المؤسسة أن يحقق الاقتصاد المصري معدل نمو يبلغ 4.4% خلال العام المالي 2024/2025، ليرتفع تدريجيًا إلى 5% بحلول 2027/2028، بما يعكس مسارًا تصاعديًا متوازنًا يعزز قدرة الاقتصاد على مواجهة المتغيرات الإقليمية والعالمية.

ويشير الخبراء إلى أن هذا التحسن لم يكن وليد اللحظة، بل نتيجة لمسار إصلاحي بدأ منذ عام 2023 حين أطلقت الحكومة حزمة إجراءات حاسمة تضمنت تحرير سعر الصرف.

وتوسيع القاعدة الضريبية بنحو 35%، وترشيد الإنفاق العام وتحسين كفاءة إدارة الموارد. وأسفرت تلك الجهود عن استقرار عجز الموازنة عند حدود 7.5% من الناتج المحلي خلال عامي 2025 و2026، مع خطة لخفضه تدريجيًا إلى 6.5% في 2026/2027، وهو معدل لم يتحقق منذ أكثر من عقد.

أما على صعيد السياسة النقدية، فقد شهدت الأسواق استقرارًا في سعر الصرف منذ مارس 2024 دون وجود طلبات متراكمة على الدولار، ما اعتبرته مؤسسات التصنيف الدولية دلالة على عودة التوازن إلى سوق النقد. وساهم هذا الاستقرار في انتعاش السياحة وارتفاع تحويلات المصريين بالخارج، إلى جانب تحسن الاحتياطي النقدي وتراجع الضغوط على ميزان المدفوعات، وهو ما منح الاقتصاد المصري مرونة أكبر أمام اضطرابات الأسواق العالمية.

ولم يقتصر التحسن على السياسات النقدية والمالية فقط، بل امتد إلى تحولات هيكلية في بنية الاقتصاد، تمثلت في تطوير بيئة الاستثمار وتبسيط الإجراءات الضريبية وتسريع التحول الرقمي للمنظومة المالية، بما أعاد الثقة للمستثمرين المحليين والأجانب. كما ركزت الدولة على دعم التصنيع المحلي وتقليص فجوة الاستيراد، لبناء قاعدة إنتاجية قادرة على تحقيق نمو مستدام وتوليد فرص عمل حقيقية.

وأثمر الانضباط المالي والتحول الرقمي في إدارة الموارد العامة عن تحقيق فوائض أولية متزايدة، بالتزامن مع تراجع تدريجي في تكاليف خدمة الدين. كما عكست مؤشرات السوق المحلية تحسنًا في ثقة المستثمرين وعودة تدريجية للاستثمارات الأجنبية المباشرة في قطاعات الطاقة والبنية التحتية والاتصالات.

ويؤكد خبراء الاقتصاد أن التحسن الأخير في التصنيف الائتماني ليس نهاية المطاف، بل بداية مرحلة جديدة تتطلب الحفاظ على زخم الإصلاحات وتعزيز مرونة السياسات النقدية والمالية، مع مواصلة توسيع قاعدة الإنتاج والتصدير. فنجاح مصر في تجاوز أزماتها الاقتصادية والاعتماد على قدراتها الذاتية بدلاً من المساعدات الخارجية يعيد ترسيخ مكانتها كأحد الاقتصادات الإقليمية الصاعدة بثقة وثبات.

ويمثل تحسن التصنيف الائتماني لمصر شهادة دولية على نجاح الدولة في إدارة التحول الاقتصادي بوعي واستراتيجية طويلة الأمد، ويضعها أمام تحدٍ جديد يتمثل في تحويل هذا التقدم المالي إلى ثمار ملموسة يشعر بها المواطن المصري، في مرحلة تبدو الدولة اليوم أكثر استعدادًا لخوضها بقوة وثقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *