
مع اقتراب انتهاء برنامج مصر الحالي مع صندوق النقد الدولي في نوفمبر 2026، بدأت الحكومة ومجتمع الخبراء في مناقشة شكل العلاقة المستقبلية مع المؤسسة الدولية، وما إذا كانت مصر ستواصل الاعتماد على برامج التمويل، أم أنها ستتجه إلى صياغة رؤية اقتصادية وطنية أكثر استقلالية.
رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، أكد في تصريحات حديثة أن الحكومة تعمل على مراجعة أولوياتها الاقتصادية بما يضمن تقليل الاعتماد على التمويل الخارجي، مشددًا على أن التجارب السابقة مع الصندوق كانت ضرورة فرضتها الظروف الاستثنائية. وجاء ذلك بعد تصريحات لمحمود محيي الدين، المدير التنفيذي بصندوق النقد الدولي، الذي وصف العلاقة بين مصر والصندوق منذ 2015 بأنها “إدارة أزمات”، معتبرًا أن الوقت قد حان للتحول إلى رؤية شاملة تتجاوز مجرد الاستجابة للضغوط المالية.
مدبولي، أعلن أن الحكومة تنوي إطلاق “السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية”، وهي خطة تهدف إلى وضع تصور للاقتصاد خلال السنوات الخمس المقبلة حتى عام 2030، وبعد انتهاء الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. وفقا له، تشمل السردية التوسع في الاعتماد على القطاع الخاص، وتخفيف دور الدولة في النشاط الاقتصادي، وتركز على النمو وزيادة فرص التشغيل.
كما تستهدف رفع معدل النمو الاقتصادي إلى 7 في المئة خلال خمس سنوات، مقارنة بـ4.5 في المئة مستهدَف العام المالي الجاري (2025–2026). وتهدف أيضاً إلى مضاعفة عدد الوظائف الجديدة ليصل إلى 1.5 مليون وظيفة سنوياً، وزيادة قيمة الصادرات لتبلغ 145 مليار دولار بحلول عام 2030، مقابل 40 مليون دولار في عام 2024.
تباينت آراء الخبراء حول فكرة الاستغناء عن الصندوق، فالمحلل الاقتصادي وائل النحاس، يحذر من أن انسحاب مصر المبكر من برامج الصندوق قد يضر بثقة المستثمرين، خاصة أن الاقتصاد لا يزال يعتمد على تدفقات خارجية مثل تحويلات العاملين وقناة السويس. وأشار في تصريحات صحفية إلى أن الإصلاحات الهيكلية التي طُرحت في الأعوام الماضية لم تُستكمل بالصورة المطلوبة، وهو ما يجعل استمرار التعاون مع الصندوق غطاءً ضروريًا حتى اكتمال عملية الإصلاح.
من جانبه، أوضح المحلل الاقتصادي هاني جنينة أن طبيعة العلاقة مع الصندوق مؤقتة بطبيعتها، مستشهدًا بتجارب كوريا الجنوبية وتركيا التي اعتمدت على الصندوق لفترة ثم استكملت إصلاحاتها بصورة ذاتية. لكنه شدد في تصريحات صحفية على أن هذا الخيار يتطلب استمرار الإصلاحات الهيكلية محليًا، وتوسيع قاعدة الإنتاج والتصدير.
أما المحلل الاقتصادي محمد فؤاد، فقد وصف تجربة مصر مع الصندوق منذ التسعينات وحتى الآن بأنها “نصف إصلاح”. وقال إن ما تحقق من تحرير سعر الصرف وتقليص الدعم خطوة مهمة، لكنها لم تُستكمل ببرامج نمو قوية في الصناعة والزراعة والخدمات. وأضاف في تصريحات صحفية أن مصر تحتاج إلى “نقلة هيكلية” في الاقتصاد، لا مجرد الاعتماد على القروض أو الإجراءات المالية قصيرة الأجل.
البنك المركزي المصري من جانبه أشار في تقاريره إلى أن الدين الخارجي بلغ نحو 150 مليار دولار بنهاية 2024، بما يعادل 90 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، مع توقع انخفاضه هذا العام إلى نحو 86.6 بالمئة. هذه الأرقام تعكس التحدي الكبير أمام أي رؤية اقتصادية مستقبلية: كيفية إدارة الدين وتنويع مصادر التمويل.
ويرى المحلل الاقتصادي محمد النجار أن تجربة مصر مع الصندوق خلال الأعوام العشرة الماضية “أخرجتها من أزمة كادت أن تودي بها”، مؤكدا أن تحرير سعر الصرف وأسعار الطاقة ساعد على جذب استثمارات جديدة، لكنه أشار في الوقت نفسه إلى أن المواطن المصري تحمل الكلفة، إذ ارتفع التضخم إلى أكثر من 30 بالمئة في بعض الأعوام. وأضاف النجار في تصريحات صحفية أن خطة ما بعد الصندوق لا تعني التخلي عن الاستدانة، بل “تنويع طرق الاستدانة” مثل التوجه إلى إصدار الصكوك أو دخول أسواق جديدة.
أما وليد جاب الله، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والإحصاء، فرأى أن الحكومة تسعى إلى عدم الاعتماد على الصندوق، لكن ذلك لا يمنع من الاستفادة منه في المشاورات والدعم الفني. وأكد أن لخطط ما بعد الصندوق إيجابيات واضحة، مثل تحسن السياحة ونمو الصناعات التحويلية والبناء والخدمات، لكنه أشار أيضًا إلى تحديات مثل تراجع إيرادات قناة السويس بنسبة 61% العام الماضي بسبب التوترات في البحر الأحمر، إضافة إلى الحاجة لتعزيز قطاع البترول.
في مقابل هذه الرؤى، قال الخبير المصرفي محمد عبد العال إن العلاقة مع الصندوق لن تنقطع بشكل كامل، بل قد تظل قائمة من خلال المشاورات والبرامج الفنية، حتى لو لم تعتمد مصر على تمويل مباشر. وأكد أن مصر ستكون قادرة على الاستغناء عن التمويل الخارجي فقط إذا نجحت في صياغة رؤية اقتصادية متكاملة، تجمع بين الإصلاحات المالية والنقدية ودفع عجلة الإنتاج والتصدير.