
تشهد مصر اليوم مرحلة فارقة تتطلب إعادة تعريف دور الدولة وإعادة هيكلة أولوياتها التنموية. ومع تنامي التحديات المحلية والعالمية، يبرز السؤال الجوهري: أين تقف مصر في خريطة التنمية العالمية؟ يكشف تقرير مشترك حديث صادر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) والمعهد القومي للتخطيط عن تقييم شامل لمسار التنمية في مصر، مقارنة بـ 160 دولة حول العالم، عبر مؤشر جديد يدعى “مؤشر التنمية العالمية” (GDI)، يضم ثلاثة أبعاد رئيسية: التنمية البشرية المعدّلة بالجودة، واستدامة البيئة، والحوكمة.
بحسب التقرير، وعلى الرغم من بعض التقدم الذي حققته مصر منذ عام 2000، فإنها لا تزال تحتل مرتبة متدنية في مؤشر التنمية العالمية، حيث جاءت في المركز 125 من أصل 160 دولة. ويُعزى هذا الترتيب المتأخر إلى ضعف الأداء في مجال الحوكمة، وهو البُعد الأكثر تأثيراً سلباً على التقييم العام لمصر مقارنةً بأداءها الأفضل نسبياً في بُعد التنمية البشرية المعدّلة بالجودة.
يشير التقرير إلى أن أداء مصر في بُعد الحوكمة، الذي يشمل فعالية الحكومة والحوكمة الديمقراطية، شهد تراجعاً ملحوظاً، خاصة في جودة الخدمات العامة وفعالية الإنفاق العام.
وتؤكد الدكتورة هالة السعيد، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية، في تصريحات سابقة أن “تحسين الحوكمة يمثل عنصراً أساسياً لتحقيق النمو الشامل والمستدام، وأن الدولة تعمل على تطوير منظومة الخدمات الحكومية وتعزيز الشفافية عبر التحول الرقمي”.
وأظهر التقرير تقدماً في مؤشر التنمية البشرية المعدّل بالجودة، خصوصاً في جانب المعرفة، لكن لا تزال هناك فجوات حادة في جودة التعليم والدخل. ويُلاحظ أن مؤشرات الفقر وغياب العدالة في توزيع ثمار النمو الاقتصادي تضعف من تأثير التقدم في هذا الجانب.
وتقول الدكتورة رشا راغب، المدير التنفيذي للأكاديمية الوطنية للتدريب، إن “بناء رأس المال البشري يجب أن يوازيه إصلاح في منظومة الأجور والتعليم الفني وربطه بسوق العمل”.
وصنّف التقرير مصر كـ “حالة فريدة عالمياً” من حيث تراجع مؤشرات الأمن الغذائي والمائي. فقد أظهرت بيانات التقرير أن مصر تحتل مراتب متأخرة في هذه المؤشرات، مقارنةً حتى بدول أقل منها من حيث الدخل. ويعود ذلك إلى تحديات مثل ندرة المياه، واعتماد الزراعة على أساليب تقليدية.
وقد أكد الدكتور هاني سويلم، وزير الموارد المائية والري، مؤخراً أن “خطة مصر لإدارة المياه تعتمد على التوسع في مشروعات تحلية المياه وتبطين الترع وتطوير الري الحقلي”.
وحدد التقرير ثلاث أولويات محورية تشكل الأساس لتحسين مسار التنمية في مصر، وتتمثل في تعزيز فعالية الحكومة، ومعالجة نقص الأمن الغذائي والمائي، وتحقيق المرونة الاقتصادية.
أولًا: تعزيز فعالية الحكومة: يشدد التقرير على ضرورة تطوير أداء المؤسسات العامة، بما يشمل رفع كفاءة الخدمة العامة وتحقيق العدالة وضمان الشفافية والمساءلة في كل مستويات الإدارة. كما يدعو إلى إطلاق حوار وطني شامل بمشاركة الحكومة والمجتمع المدني والجهات الدولية حول إصلاحات الحوكمة، بهدف بناء توافق وطني حول أولويات التغيير المؤسسي، ويُعتبر التحول الرقمي أحد المحاور الجوهرية لتحسين جودة الخدمات الحكومية وتبسيط الإجراءات وتعزيز الكفاءة.
ثانيًا: معالجة نقص الأمن الغذائي والمائي: ينبغي لمصر، وفقاً للتقرير، أن تتبنى أساليب زراعية حديثة وموفّرة للمياه لمواجهة ندرة الموارد المائية. كما يُوصى بالاستثمار في برامج دعم المجتمعات الريفية بما يضمن تعزيز الأمن الغذائي المحلي وتقليل الاعتماد على الواردات. ويُعد تعزيز التعاون الإقليمي، خاصة في إطار دول حوض النيل، ضرورة استراتيجية لضمان الاستغلال المستدام للموارد المائية المشتركة.
ثالثًا: تحقيق المرونة الاقتصادية: من أجل تحقيق تنمية شاملة ومستدامة، يوصي التقرير بدعم القطاعات الإنتاجية التي تخلق فرص عمل لائقة ومستدامة، خاصة مع التركيز على دمج المرأة في سوق العمل. كما يؤكد على ضرورة تقليص حجم الاقتصاد غير الرسمي وتحسين بيئة العمل من خلال إصلاحات سوق العمل. ويكتمل هذا التوجه بالاستثمار في الحماية الاجتماعية، سواء من خلال نظم التأمين أو الدعم النقدي المباشر، بالإضافة إلى تبني سياسات ضريبية عادلة توفر الموارد اللازمة للإنفاق الاجتماعي وتدعم العدالة الاجتماعية.
وأكد الدكتور عبد الله عبد العظيم، خبير الاقتصاد التنموي في جامعة القاهرة، أن “أي إصلاح اقتصادي دون إصلاح حوكمي مصيره الإخفاق، ومصر تحتاج إلى إدارة رشيدة لمواردها وإشراك المجتمع في صياغة السياسات”.
إن وضع مصر في مؤشر التنمية العالمية لا يمثل حكماً نهائياً، بل يشير إلى بوصلة يمكن أن توجه السياسات العامة نحو تحقيق نتائج أفضل. إن التحديات التي تواجهها مصر – من ضعف الحوكمة إلى ندرة الموارد – ليست قدراً محتوماً، بل فرصة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي، وفتح آفاق جديدة نحو تنمية عادلة ومستدامة. المطلوب اليوم ليس مجرد نمو اقتصادي، بل نمو بشري شامل، يقوده إصلاح مؤسسي حقيقي، ويضمن توزيعاً عادلاً للفرص والثروات.