
وضعت الحكومة المصرية ملف تطوير البنية التحتية اللوجيستية على رأس أولوياتها؛ إذ أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي توجيهات بتسريع أعمال تطوير الموانئ البرّية والجافة والمناطق اللوجستية، بهدف تعزيز الدور المصري كمحور للتجارة والنقل العابرة.
كما أطلقت وزارة النقل مبادرة إنشاء سبع قنوات لوجستية جديدة لربط مناطق الإنتاج الصناعي والزراعي بموانئ البحر الأحمر والمتوسط عبر شبكة طرق وسكك حديدية، بما يعزز الربط بين الموانئ البرية والبحرية.
لكن التحوّل إلى مركز لوجستي فعلي يتطلب تجاوز العقبات التقليدية: البُعد الجغرافي لبعض المناطق، والتكلفة العالية لإنشاء وصيانة البنية التحتية، والتنسيق بين جهات متعددة، وكفاءة التشغيل والتكنولوجيا، والتنافس مع مراكز لوجستية أخرى في دول الجوار.
ومصر اليوم في موقف فريد للاستفادة من التجارب العالمية في هذا المجال، نظراً لما تمتلكه من مقومات طبيعية بشرط أن تُستكمل بالتطوير الهيكلي والتنسيق المؤسسي.
ووفقًا لبيانات الحكومة، تُخطّط مصر لإقامة 31 ميناء جافًا (dry ports) ومناطق لوجستية موزعة على الصعيد الوطني، ضمن استراتيجية الربط بين الموانئ والداخل، وفي مطلع 2025، وقّعت مصر عقدًا مع شركة MEDLOG السويسرية لإنشاء ميناء جاف ومركز لوجستي في مدينة العاشر من رمضان، يشمل 250 فدانًا، حيث يُشكل هذا المشروع حلقة أساسية في الربط بين ميناءي السخنة والإسكندرية من خلال شبكة محاور برية وسكك حديدية، وأصبحت لدى مصر نحو 55 ميناء (18 ميناء تجاري و37 مخصص) تُخدم حركة شحن ضخمة.
فرغم أن الموقع يمنح مصر ميزة طبيعية، إلا أن التحدي يكمن في استكمال هذه الميزة ببنية تحتية متطورة وتنسيق مؤسسي قادر على تذليل العقبات التقليدية مثل ارتفاع تكاليف النقل، وتعدد الجهات المنظمة، وتنافسية المراكز اللوجستية في المنطقة.
ومن هنا، برزت أهمية الشراكات مع شركات عالمية تمتلك خبرة عميقة مثل دي بي ورلد – مصر، التي أصبحت شريكًا استراتيجيًا في دعم هذه الرؤية، ولقد شهد عام 2025 خطوات بارزة تؤكد هذا التوجه، منها توقيع دي بي ورلد – مصر اتفاقية مع السويدي للتنمية الصناعية لإنشاء منشأة للتخزين المبرد بمدينة السادس من أكتوبر باستثمارات بلغت 1.42 مليار جنيه على مساحة 16,194 مترًا مربعًا بطاقة استيعابية تصل إلى 25,000 موضع تخزين، كما استقبل ميناء السخنة، الذي تديره الشركة، رافعتين عملاقتين بقدرة رفع 125 طنًا لتعزيز القدرة التشغيلية للميناء.
وفي إطار خططها التوسعية، تعمل الشركة على إنشاء منطقة لوجستية متكاملة في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس بمساحة تزيد عن 290 ألف متر مربع، تشمل مرافق للتخزين المبرد والمستودعات الجمركية وخدمات الحاويات الفارغة ومركز توزيع محلي. هذه المشروعات تجسد رؤية متكاملة لربط الموانئ البحرية بالموانئ الجافة والمناطق الصناعية عبر أنظمة نقل متعددة الوسائط.
ومن جانبه، أكد محمد شهاب، المدير التنفيذي لشركة دي بي ورلد – مصر، أن رؤية الشركة تتكامل مع خطة الدولة للتحول إلى مركز عالمي للتجارة، موضحًا أن “دي بي ورلد تسعى إلى تقديم حلول متكاملة تواكب أحدث المعايير العالمية في إدارة الموانئ والمناطق اللوجستية، بما يضمن جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية وتعزيز موقع مصر كمحور رئيسي على خريطة التجارة الدولية”. وأضاف أن الشركة تعمل على دعم التحول الرقمي في قطاع النقل والخدمات اللوجستية، عبر أنظمة ذكية متقدمة لإدارة سلاسل الإمداد، بما يقلل من زمن العبور ويخفض التكلفة.
ويرى محللون اقتصاديون أن هذه الجهود لا تعزز فقط تنافسية الاقتصاد المصري، بل توفر أيضًا فرص عمل مباشرة وغير مباشرة في قطاعات النقل والخدمات اللوجستية والتكنولوجيا، فضلًا عن تحفيز بيئة الأعمال المرتبطة بالصناعة والتجارة، كما تسهم في تقليل زمن الإفراج الجمركي وخفض تكاليف الشحن، وهو ما يزيد من فرص نفاذ الصادرات المصرية إلى الأسواق العالمية.
وتؤكد هذه الخطوات أن مصر تمضي نحو بناء بنية تحتية لوجستية متكاملة، تجمع بين المزايا الجغرافية والإمكانات الاستثمارية والخبرات العالمية. وإذا استمرت في هذا المسار، فإنها ستصبح بالفعل منصة محورية للتجارة الدولية، بما يعزز النمو الاقتصادي ويضعها في موقع متقدم على خريطة الممرات التجارية العالمية.
فتحويل مصر إلى مركز لوجستي فعلي ليس مجرد طموح؛ بل هو ضرورة اقتصادية في ظل المنافسة الإقليمية والدولية، وفي ظل التغيرات المتسارعة في سلاسل الإمداد العالمية. التجربة العالمية، ولا سيما تجربة موانئ دبي العالمية، تبيّن أن النجاح يكمن في الربط المتكامل بين الميناء والبرّ، وتطوير المناطق حول الموانئ، والابتكار الرقمي، والشراكة مع القطاع الخاص.