
تعتبر سياسة “أمريكا أولاً” التي ينتهجها الرئيس “دونالد ترامب” بعد عودته إلى سدة الحكم، بمثابة زلزال سياسي اقتصادي يعيد رسم خرائط التحالفات الاقتصادية والدبلوماسية العالمية، وفي تطور هو الأبرز، لا يكتفي “ترامب” بالتلويح بسياسات القيود التجارية، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، داعيًا حلفاءه الأوروبيين إلى الانضمام إلى حرب اقتصادية مباشرة وغير مسبوقة ضد دولتين من أكبر القوى الصاعدة في العالم، “الصين والهند”، هذا التوجه الجديد، يربط بشكل مباشر بين الضغط الاقتصادي على بكين ونيودلهي وبين إضعاف قدرة روسيا على تمويل حربها في أوكرانيا، مما يضع العالم أمام معادلة معقدة قد تغير ميزان القوى العالمية وتختبر مرونة التحالفات التقليدية.
وفي تحوّل لافت في الاستراتيجية الأمريكية، يطالب الرئيس “ترامب” الاتحاد الأوروبي باتخاذ خطوة غير مسبوقة، بفرض رسوم جمركية تصل إلى 100% على واردات الصين والهند، هذا المطلب، الذي جاء وفقا لوكالة “رويترز”، في محادثة هاتفية، الثلاثاء الماضي، مع مبعوثي الاتحاد الأوروبي المعنيين بالعقوبات، لا يستهدف الدولتين بشكل مباشر بقدر ما يسعى إلى تجفيف مصادر التمويل الرئيسية للحرب الروسية في أوكرانيا، وفق تصور “ترامب”، الذي يرى أن الصين والهند أصبحت أكبر مشترين للنفط الروسي منذ أن فرضت بروكسل حظراً على صادرات موسكو النفطية، وباتتا تمثلان شريان الحياة الذي يُمكّن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” من مواصلة الحرب، هذا الإجراء، الذي يشكل تغييراً جذرياً في نهج واشنطن من التهديد المباشر لروسيا إلى استهداف شركائها التجاريين، يضع الاتحاد الأوروبي أمام خيار صعب.
وتأكيداً على المنطق الاقتصادي الكامن وراء هذا التحرك، تُظهر الأرقام سبب تركيز “ترامب” على الصين والهند، ففي عام 2021، كانت أوروبا تستحوذ على 40% من صادرات روسيا النفطية، أما اليوم فلا تتجاوز حصتها 5%، وفي المقابل، ارتفعت واردات الهند من النفط الروسي 19 ضعفاً منذ ذلك الحين، لتصل إلى 1.9 مليون برميل يومياً، بينما زادت الصين مشترياتها بنسبة 50% لتصل إلى 2.4 مليون برميل يومياً، ووفقا لرؤية بعض الخبراء والمحللين، هذه الصفقات، التي تتم بأسعار مخفضة للغاية، مكّنت روسيا من تحقيق إيرادات نفطية سنوية تصل إلى 88 مليار يورو، مما يفسر قدرتها على الصمود الاقتصادي في وجه العقوبات الغربية.
ويرى خبراء، أن موقف الاتحاد الأوروبي يظل متبايناً، ففي حين أكد دبلوماسيون أن واشنطن أبدت استعدادها لفرض رسوم مماثلة إذا وافقت بروكسل على المشاركة، إلا أن الاتحاد الأوروبي قد فضّل حتى الآن سياسة العقوبات على الرسوم الجمركية، وهو ما يتضح من “المبادرة الألمانية، الفرنسية” الأخيرة التي تسعى لفرض حزمة عقوبات جديدة على قطاع الطاقة والبنوك الروسية، دون استهداف دول ثالثة بشكل مباشر.
وتظهر الصين والهند قدراً كبيراً من عدم الاكتراث بتهديدات “ترامب”، فبكين أكدت أنها ستضمن أمن إمداداتها من الطاقة بما يخدم مصالحها الوطنية، بينما اتهمت نيودلهي الغرب بالنفاق، مذكّرة بأن واشنطن نفسها كانت قد شجّعت مشترياتها من النفط الروسي في البداية بهدف استقرار أسعار النفط العالمية، هذا المزيج من الضغوط الأمريكية والتوترات الهيكلية مع الصين والتحولات في العلاقة مع واشنطن، يدفع الهند للبحث عن شركاء أكثر موثوقية، وهو ما يفتح نافذة فرصة فريدة أمام أوروبا لتعميق شراكتها مع نيودلهي.
ويقول محللين: “يجب على أوروبا أن تتجنب سياسات “ترامب” التجارية التي قد تضر بسمعتها، وأن تثبت أنها شريك موثوق على المدى الطويل، وليس فقط من أجل كسب ود واشنطن”.