
تسعى مصر في السنوات الأخيرة إلى إحداث نقلة نوعية في بنيتها التحتية، لا سيما في قطاع النقل، حيث يأتي مشروع القطار الكهربائي السريع في مقدمة هذه الجهود، باعتباره من أضخم مشروعات النقل الجماعي المستدام في الشرق الأوسط وأفريقيا.
يهدف المشروع إلى ربط المدن المصرية ببعضها البعض من خلال شبكة قطارات كهربائية فائقة السرعة، توفر بديلاً عصرياً وآمناً للتنقل، وتخفض زمن الرحلات، وتدعم جهود الدولة نحو التحول الأخضر والنقل الذكي، بما يعكس رؤية مصر 2030 في التنمية المستدامة وتحديث البنية التحتية.
بدأت فكرة القطار الكهربائي السريع في مارس 2018، حينما دخلت الحكومة المصرية في مفاوضات مع شركة سيمنز الألمانية لتدشين شبكة قطارات حديثة بطول إجمالي يصل إلى نحو 2000 كيلومتر، بعد سنوات من الدراسات الفنية والتنسيق مع الشركاء المحليين، وُقّع في مايو 2022 العقد النهائي لتنفيذ المشروع مع تحالف يضم شركة Siemens Mobility الألمانية، وشركتي أوراسكوم للإنشاءات والمقاولون العرب، بتكلفة إجمالية تُقدّر بنحو 23 مليار دولار (حوالي 20 مليار يورو). ويُعد المشروع الأكبر من نوعه في تاريخ شركة سيمنز منذ تأسيسها.
يتكون المشروع من ثلاث خطوط رئيسية، أولها “الخط الأخضر” والذي يمتد من العين السخنة على ساحل البحر الأحمر إلى مدينة مطروح على البحر المتوسط، مروراً بالعاصمة الإدارية الجديدة، ومدينة السادس من أكتوبر، والإسكندرية والعلمين، ويبلغ طول هذا الخط نحو 660 كيلومتراً، ويضم 21 محطة، ومن المتوقع أن يدخل الخدمة الفعلية عام 2027.
أما الخط الثاني، فهو “الخط الأزرق”، ويبدأ من مدينة 6 أكتوبر مروراً بالأقصر وأسوان حتى أبو سمبل بطول يبلغ نحو 1100 كيلومتر، في حين يمتد “الخط الأحمر” من قنا إلى الغردقة وسفاجا، بطول يُقارب 200 كيلومتر، ليخدم المناطق السياحية والصناعية على ساحل البحر الأحمر.
تتولى شركة سيمنز توريد 41 قطارًا فائق السرعة من طراز Velaro، إلى جانب 94 قطارًا إقليميًا من طراز Desiro و41 جرارًا كهربائيًا للبضائع من طراز Vectron، وتتميّز هذه القطارات بكونها مصممة خصيصاً لتحمل المناخ الحار وظروف الصحراء المصرية، ما يجعلها خياراً مثالياً للنقل المستدام والفعال، وفي خطوة لتعزيز التشغيل والصيانة طويلة الأمد، تم التعاقد مع شركة DB International Operations – إحدى أذرع السكك الحديدية الألمانية – بالشراكة مع شركة السويدي إليكتريك المصرية لتشغيل وصيانة الخط الأول لمدة 15 عاماً قابلة للتجديد.
وقد صرح مايكل بيتر، الرئيس التنفيذي لشركة Siemens Mobility، قائلاً: “يمثل القطار الكهربائي السريع في مصر أحد أكبر المشاريع التي نفذناها في تاريخنا، ويمثل خطوة كبيرة نحو توفير نقل مستدام وسريع وآمن للمصريين”.
من جانبه، قال نيكو واربانوف، الرئيس التنفيذي لمجموعة DB ECO الألمانية: “نحن فخورون بدورنا في هذا المشروع الذي سيسهم في إحداث نقلة حضارية لملايين الركاب في مصر، وسيوفر شبكة حديثة لنقل البضائع أيضاً”.
أما أحمد السويدي، رئيس شركة السويدي إليكتريك، فأكد أن المشروع لا يقتصر على البنية التحتية فقط، بل يشمل بناء قدرات بشرية مصرية مدرّبة وفق أحدث النظم الألمانية، وهو ما يعزز التوطين ونقل التكنولوجيا.
ومن المتوقع أن يكون لهذا المشروع تأثير بالغ على مختلف القطاعات الحيوية في مصر، فعلى صعيد السياحة، سيُسهِم القطار في تقليل زمن الوصول إلى المدن السياحية مثل العلمين ومطروح والأقصر وأسوان، ما يتيح للزائرين التنقل بسهولة بين أكثر من وجهة خلال فترة زمنية قصيرة، ويزيد من إقبال السياحة متعددة الوجهات.
وفي قطاع الصناعة، فإن ربط المدن الصناعية الكبرى مثل 6 أكتوبر وبرج العرب والموانئ البحرية سيعزز من كفاءة سلاسل الإمداد ويخفض تكاليف النقل اللوجستي.
أما على صعيد الاستثمار، فإن المشروع يعكس نموذجاً ناجحاً للتعاون المصري–الألماني في مجال التكنولوجيا المتقدمة، ويعزز البيئة الجاذبة للاستثمار من خلال توفير البنية التحتية المتطورة وتوفير آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة.
خلاصة الأمر، إن مشروع القطار الكهربائي السريع ليس مجرد وسيلة نقل جديدة، بل هو مشروع وطني شامل يربط الماضي بالمستقبل، ويجمع بين السرعة، والراحة، والاستدامة.
ومع اقتراب بدء التشغيل الفعلي للخط الأول عام 2027، تدخل مصر عصر النقل الذكي من أوسع أبوابه، وتقدم نموذجاً تنموياً يحتذى به في المنطقة.
وبفضل هذا المشروع، سيكون التنقل بين المدن أسرع، والسياحة أكثر تنوعاً، والاقتصاد أكثر تكاملاً، مما يُرسّخ مكانة مصر كدولة محورية في خريطة التنمية الإقليمية والدولية.