
في ظل تحديات إقليمية ودولية متزايدة، يخطو الاقتصاد المصري بثبات نحو التعافي، مستندًا إلى مؤشرات إيجابية أبرزها تحسّن معدلات النمو، وتراجع نسب التضخم، وارتفاع الاحتياطي النقدي، ما يعزز الثقة في المسار الاقتصادي الراهن.
وتأتي هذه التطورات في وقت تخضع فيه مصر لمراجعة خامسة من قِبل صندوق النقد الدولي، ضمن برنامج الإصلاح الاقتصادي المدعوم من المؤسسة الدولية بقرض قيمته 8 مليارات دولار، في خطوة حاسمة لتقييم مدى التزام القاهرة بتنفيذ السياسات المتفق عليها، ولفتح الباب أمام صرف دفعات جديدة من التمويل.
إشادة وتحذير
إيفانا فلادكوفا هولار، رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي في مصر، عبّرت خلال لقائها بوزيري الاستثمار والمالية عن تفاؤلها بمستقبل الاقتصاد المصري، مؤكدة أن “معدلات النمو شهدت تحسنًا ملحوظًا، كما انخفضت معدلات التضخم”، وهي مؤشرات تعكس – على حد قولها – درجة من الاستقرار النسبي رغم ما وصفته بـ”التحديات المؤقتة”.
الاجتماع الذي عُقد في وزارة الاستثمار جاء في إطار المراجعة الدورية للبرنامج الاقتصادي المصري، حيث ناقشت البعثة مدى تقدم الحكومة في تنفيذ الإصلاحات المالية والهيكلية. وأكدت هولار على “أهمية عدم التراجع عن المكتسبات المحققة”، مشيدة بالتحول الرقمي والإجراءات التنظيمية التي اتخذتها مصر لدعم مناخ الاستثمار.
الاستثمار يقود التحول
وزير الاستثمار والتجارة الخارجية، حسن الخطيب، استعرض خلال اللقاء الإجراءات الإصلاحية التي تتبناها الدولة، مشيرًا إلى “دمج وتبسيط الرسوم الإدارية وتقليل عدد الجهات الحكومية المتعاملة مع المستثمرين”، كما أعلن عن إطلاق منصة إلكترونية لتوحيد إجراءات إصدار التراخيص، ضمن خطة لتدشين منصة رقمية موحدة تمثّل نموذج “النافذة الواحدة”.
الخطيب كشف أيضًا عن وجود “وحدة مستقلة تُعنى بمتابعة عمليات تخارج الدولة من النشاط الاقتصادي”، بالتوازي مع “تحديث حوكمة الشركات المملوكة للدولة” استعدادًا للطرح في البورصة، في خطوة تهدف لتعزيز دور القطاع الخاص وتقليص التدخل الحكومي المباشر.
المالية: نمو في الإيرادات وتوجه لتسريع التشريعات
أحمد كوجك، وزير المالية، أكد من جهته التزام الحكومة بـ”توفير الإطار التشريعي الملائم لضمان استدامة الإصلاحات الاقتصادية”، مشيرًا إلى أن إصدار القوانين الداعمة لتوحيد الرسوم وتيسير التراخيص يمثل “خطوة حاسمة” لدعم المناخ الاستثماري. ولفت كوجك إلى أن “مؤشرات الأداء المالي شهدت تحسنًا ملحوظًا خلال الأشهر التسعة الماضية”، مدفوعة بزيادة في الأنشطة الاقتصادية، وتوجه واضح نحو تمكين القطاع الخاص وتعزيز الصادرات.
المراجعة الخامسة.. اختبار حقيقي
تشكل المراجعة الخامسة الحالية محطة بالغة الأهمية في تقييم مدى تقدم مصر ضمن البرنامج الاقتصادي المتفق عليه مع صندوق النقد. وتتناول هذه المراجعة – بحسب ما أوضحه الصندوق – ملفات شائكة أبرزها “تخارج الدولة من قطاعات معينة”، و”تفعيل مرونة سعر الصرف”، إلى جانب قضايا تتعلق بالإصلاح الضريبي والمؤسسي.
ويأتي ذلك بعد صرف الشريحة الرابعة من القرض في أبريل الماضي بقيمة 1.2 مليار دولار، إثر اجتياز مصر المراجعة الرابعة بنجاح. وقد رفعت مصر قيمة البرنامج من 3 إلى 8 مليارات دولار في مارس 2024، ما ساهم في فتح الباب أمام تدفقات مالية واستثمارات جديدة ساعدت في التخفيف من حدة الأزمة التي عصفت بالاقتصاد في 2022.
تحذيرات داخلية وخارجية
لكن رغم الإشادات الدولية، لا تخلو المراجعة الخامسة من التحديات. فالخبير الاقتصادي محمد أنيس يرى أنها “من أصعب المراجعات”، نظرًا لارتكازها على ملفات لم تحقق الدولة فيها تقدمًا ملموسًا، أبرزها التخارج من النشاط الاقتصادي وتقليص العجز الكلي. وأوضح أن “الإجراءات الفعلية لبيع أصول مملوكة للدولة، خاصة التابعة للجيش، لم تُنفذ حتى الآن”، مما قد يثير تحفظات لدى الصندوق.
في المقابل، يرى الخبير أحمد خطاب أن زيارة الصندوق تأتي في “توقيت مناسب”، في ظل تحسن المؤشرات العامة، لافتًا إلى أن الحكومة قطعت شوطًا في تطبيق الإجراءات المتعلقة بمرونة سعر الصرف ورفع الدعم التدريجي عن المحروقات.
ملف الدعم.. إصلاحات مؤلمة
من أبرز الملفات المثيرة للجدل، تأثير الإصلاحات الاقتصادية على الفئات الاجتماعية الضعيفة. ففي أبريل 2024، رفعت الحكومة للمرة الثانية خلال 6 أشهر أسعار الوقود، متوقعة تحقيق وفر مالي قدره 35 مليار جنيه. كما زادت في مايو الماضي سعر رغيف الخبز المدعم بنسبة 300%، وهي أول زيادة منذ أكثر من 30 عامًا.
ورغم هذه الخطوات، تسارع التضخم في المدن المصرية إلى 13.6% في مارس، متأثرًا بارتفاع أسعار النقل والسلع الأساسية. هذا التسارع جاء بعد فترة من التباطؤ، ما دفع البنك المركزي إلى خفض أسعار الفائدة لأول مرة منذ 5 سنوات بواقع 225 نقطة أساس، بعد أن رفعها في مارس 2024 لمستويات قياسية بالتزامن مع تخفيض الجنيه بنسبة تزيد عن 40%.
ضغوط وتقلبات
الاقتصاد المصري لم يكن بمنأى عن الاضطرابات الدولية، فقد أدت القرارات الجمركية الأخيرة للرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى خروج أكثر من مليار دولار من السوق المحلية، بحسب تقديرات “غولدمان ساكس”، مما أحدث اضطرابًا في سوق الصرف، دفع الجنيه إلى أدنى مستوياته التاريخية قبل أن يتماسك لاحقًا.
وأمام هذه التحديات، حذّر صندوق النقد مصر من التسرع في خفض أسعار الفائدة، مشيرًا إلى الضبابية العالمية التي قد تؤثر على استقرار الأسواق الناشئة.
نمـو قياسي وحزمة ضخمة
رغم الصعوبات، نما الاقتصاد المصري في الربع الثاني من العام المالي 2024/2025 بنسبة 4.3%، وهي أسرع وتيرة فصلية منذ أكثر من عامين، بدعم من قطاعي الصناعات التحويلية والسياحة، رغم تراجع إيرادات قناة السويس.
ولتعويض المتضررين، أطلقت الحكومة حزمة اجتماعية بقيمة 200 مليار جنيه (نحو 4 مليارات دولار) لدعم الفئات الأكثر تضررًا، بحسب ما أعلنه رئيس الوزراء مصطفى مدبولي.
وفيما يتعلق ببرنامج الطروحات، أعلن مدبولي أن مصر جمعت 6 مليارات دولار من 21 صفقة ضمن البرنامج خلال 2023، وأن هناك 10 شركات جديدة يُخطط لطرحها هذا العام. لكن مراقبين يرون أن “وتيرة الطروحات لا تزال أبطأ من المتوقع”، خاصة في ظل تأخر فتح بعض القطاعات، مثل إدارة المطارات، أمام القطاع الخاص.
توقعات النمو.. إشارات إيجابية مشروطة
رفع صندوق النقد توقعاته لنمو الاقتصاد المصري إلى 3.8% في العام المالي الحالي و4.3% للعام المقبل، بزيادة قدرها 0.2% عن توقعاته السابقة. كما رفع البنك الدولي تقديراته إلى 3.8% أيضًا، بينما تتوقع الحكومة نموًا عند حدود 4% مع نهاية يونيو.
هذه الأرقام تعكس تفاؤلًا حذرًا، مرتبطًا بمدى التزام الدولة بتنفيذ الإجراءات الإصلاحية المتبقية، وتجاوز العقبات السياسية والاجتماعية والبيروقراطية. ورغم التحسن الملحوظ في المؤشرات الاقتصادية، لا تزال مصر تواجه اختبارات حقيقية على طريق الإصلاح. فالمراجعة الخامسة مع صندوق النقد الدولي ليست مجرد إجراء فني، بل محطة فاصلة تحدد مدى جدية الحكومة في إنجاز التحولات الهيكلية المطلوبة، خصوصًا في ملفات التخارج، والتمكين الحقيقي للقطاع الخاص، والحفاظ على التوازن الاجتماعي في ظل الإصلاحات الجارية.