نكأت تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي حول الدولار ، جراح المواطنين الذين يرزحون تحت وطأة واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية، إثر بلوغ التضخم مستوى قياسيا مدفوعا بتراجع قيمة الجنيه ونقص العملة الأجنبية، في بلد يستورد غالبية حاجاته الغذائية، فضلا عن تزايد حجم الدين الخارجي.
وأوضح الرئيس في حديثه اليوم (الأربعاء) أنه يدرك الغلاء الذي يعانيه المصريون، لكنه أشار إلى أنه رغم كل ذلك “نقدر نعيش.. لو تحملنا سنعيش ونتجاوز المشكلة”، مضيفا “نحتاج سلعا أساسية مثل القمح والذرة بمليار دولار شهريا.. ونحتاج لوقود بمليار دولار شهريا.. ومحطات الكهرباء تعمل بالغاز بمليار دولار شهريا”.
مشكلة دائمة
وعن شح الدولار وارتفاع سعره المتواصل في السوق الموازية، قال السيسي إن مشكلة الدولار دائمة، وطالما كانت موجودة في مصر، وسببها يعود إلى أن الدولة تشتري السلع بالعملة الأجنبية، ثم تقدمها للمواطنين بالجنيه المصري، على حد تعبيره.
وتستورد مصر معظم احتياجاتها الأساسية من الخارج وتحتاج للعملة الصعبة لتأمين تلك الأساسيات، حيث “تنفق مليار دولار شهريا لاستيراد السلع الأساسية”، وفقا لما قاله الرئيس.
وبالإضافة إلى ذلك، تحتاج مصر إلى العملة الخضراء لسداد 189.7 مليار دولار من الديون الخارجية، تراكم معظمها خلال السنوات العشر الماضية. ومن المقرر سداد ما لا يقل عن 42.26 مليار دولار من الديون هذا العام، على الرغم من توقع محللين إرجاء سداد بعض هذه المبالغ إلى فترات لاحقة، بحسب رويترز.
على الرغم من اتساع الفجوة بين سعر الدولار مقابل الجنيه في مصر بالسوق الموازية والبنوك الرسمية، لا تزال الحكومة المصرية تثبت السعر الرسمي للدولار قرب 31 جنيها، في حين أنه يُتداول في السوق الموازية عند 65 جنيها، بحسب متعاملين تحدثوا للبورصجية، لتتسع الفجوة بين السعرين الرسمي والموازي إلى أكثر من مئة بالمئة.
ويبدو سعر الدولار في السوق الموازية بعيدا جدا عن تقديرات الحكومة البالغة 33.45 جنيها خلال 2024، و35.5 جنيها في 2025، ثم 37.12 جنيها في 2026، و38.45 جنيها في 2027، على أن يصل إلى 39.61 جنيها في 2028، وهي تقديرات وإن كانت أقل بكثير من السعر المتداول في السوق الموازية، فإنها تؤشر على أنه لا تعافي للجنيه يلوح في الأفق.
السوق السوداء بالخارج
أدى نقص الدولار إلى خلق سوق سوداء يكون فيها المستوردون والأفراد على استعداد لدفع سعر أعلى كثيرا من السعر الرسمي للحصول على ما يحتاجونه من النقد الأجنبي.
ويتجنب حائزو الدولارات النظام المالي الرسمي بما يجعله متعطشا للعملة الصعبة، ما يفرض مزيدا من الضغوط على الجنيه ومن المحتمل أن يزيد التضخم أكثر مما هو زائد ويقلل من ثقة المستثمرين والنمو الاقتصادي، ي حين أن القضاء على السوق السوداء ضروري لاستعادة ثقة المستثمرين إذ سيقلل خطر تآكل أرباحهم بسبب تقلبات الجنيه.
وشدد نواب على ضرورة القضاء نهائيًا على ظاهرة الاتجار بالدولار في السوق السوداء، وتطبيق القانون بكل حسم وقوة ضد المخالفين وكل من يحاولون الإضرار بالاقتصاد الوطني، وطالبوا بتغليظ عقوبة المتعاملين في السوق السوداء إلى السجن المؤبد مع مصادرة جميع الأموال، لردع كل من تسول له نفسه ممارسة نشاطات خارج القنوات الشرعية.
ولم يعد التلاعب في سعر صرف الدولار قاصرا على السوق المحلية فحسب، بل امتد إلى المصريين في الخارج، حيث يجمع السماسرة الدولارات والعملات الأجنبية من العاملين بالخارج، ثم يرسلون قيمتها إلى ذويهم في مصر بالجنيه، وبالتالي لا تدخل تلك العملات إلى البنوك المصرية، فيما يعرف بنظام المقاصة خارج البلاد، ما أدى إلى تراجع تحويلات المصريين بالخارج والتي تعد أهم موارد الدخل القومي من النقد الأجنبي، وفقا للنائبة أمل سلامة.
وفي أكتوبر تشرين الأول الماضي، أعلن البنك المركزي المصري عن تراجع تحويلات المصريين العاملين في الخارج خلال العام المالي 2022-2023 بنسبة 30.8 في المئة على أساس سنوي، لتصل إلى 22.1 مليار دولار، مقابل 31.9 مليار دولار في العام المالي السابق، بينما تستهدف الحكومة المصرية زيادة تحويلاتهم بنسبة 10% سنويا.
ويسعى التجار إلى اجتذاب الدولارات التي يحوزها العاملون والمصدرون بالخارج قبل دخولها البلاد وهو ما أدى لتفاقم حدة نقص الدولار في ظل أزمة العملة التي قوضت الاستثمارات وعصفت بقطاعي التجارة والصناعات التحويلية.
بطاقات السحب بالخارج
يرى مصرفيون أنها “حلقة مفرغة لأن الطريقة الوحيدة للقضاء على السوق السوداء هي أن تبدأ البنوك في توفير الدولار فيما لا تملك البنوك الموارد الدولارية إذ تسحبها السوق السوداء في الخارج”.
وعلى الرغم من الحرب التي تشنها الحكومة على المتعاملين في السوق السوداء، فإنهم يجددون حيَلهم. أبرز هذه الحيل، استخدام بطاقات الخصم والائتمان الصادرة من البنوك المصرية وتستعمل في الخارج، وخاصة في لبنان والإمارات وتركيا والأردن حيث يتم سحب الدولار من خلال هذه البطاقات، والحصول عليه بالسعر الرسمي ثم إعادة بيعه بالداخل في السوق السوداء، إلا أنّ الدولة فرضت قيودا جديدة على حاملي تلك البطاقات بهدف الحد من الاستخدام السيئ لها مما يتسبب في نزيف العملة الأجنبية.
كشف مصدر مصرفي مسئول عن أسباب توجيه البنك المركزي المصري البنوك لوقف المسحوبات بالدولار لبطاقات الخصم المباشر من الخارج وتقليل الحد الائتماني لبطاقات “الكريدت” بالدولار إلى 250 دولارا.
وأكد المصدر لموقع “القاهرة 24“، أنه تم ضبط مئات البطاقات الائتمانية المملوكة لعدد من عملاء البنوك بحوزة أفراد لدى مغادرتهم البلاد وذلك بالتزامن مع ارتفاع في عملية المسحوبات بالدولار من هذه البطاقات لدى البنوك.
وقال البنك المركزي في بيان إنه “في ظل ما لوحظ مؤخرا من إساءة استخدام بعض المضاربين لتلك البطاقات من خلال إجراء سحوبات نقدية من الخارج دون السفر فعليا، لذا فقد صدرت تعليمات للبنوك بفتح وتفعيل الحد الائتماني الأقصى الممنوح للبطاقة الائتمانية للاستخدام في الخارج”.
وتلجأ بعض شركات صرافة إلى حيلة نقل نشاطها إلى خارج مصر لتجميع الدولار من العاملين بالخارج وتصريفه بالخارج للمستوردين والتجار، وقد انتشرت هذه الطريقة مؤخرا في أوساط العمالة الموجودة بالخارج، ولم تعد تقتصر على شركات الصرافة بل ضمت أفرادا تحولوا إلى تجار عملة، حيث يتسلمون الدولارات من العاملين في الخارج ويسلمونها بالجنيه إلى أسرهم في مصر. وبين الحين والآخر يلغي البنك المركزي تراخيص مكاتب الصرافة التي تتعامل بسعر أعلى كثيرا من السعر الرسمي.
وبحسب منصة “بنكي”، قال البنك المركزي المصري، إن قطاع الرقابة والإشراف قام خلال السنة المالية 2022/2023 بالتفتيش على شركات الصرافة وفروعها، وأسفر التفتيش عن إلغاء الترخيص لعدد 3 شركات صرافة،وإيقاف الترخيص لعدد 3 شركات أخري لمدة عام، فيما تم إيقاف الترخيص لعدد 1شركة صرافة لمدة 6 شهور.
قد ألغى لعدد 3 شركات صرافة،وإيقاف الترخيص لعدد 3 شركات أخري لمدة عام، فيما تم إيقاف الترخيص لعدد 1شركة صرافة لمدة 6 شهور.
أرباح من الخسارة
في تقرير سابق لوكالة رويترز، إن بعض الشركات التي كانت تعتمد على التصدير لتحقيق أرباح، وجدت أنها قد تحقق مزيدا من الأرباح عبر بيع الدولارات التي تكسبها للمستوردين المتعطشين للعملة الصعبة بسعر السوق السوداء.
ونقلت الوكالة عن تاجر عملة، يعمل بشكل مباشر في مثل هذه الصفقات قوله “حتى لو تكبد خسارة في بيع البضاعة، فإنه يكسب في قيمة التحويل، يترك الأموال في الخارج ويبيعها لمستوردين يحتاجون إليها في الخارج”.
وأضاف “هناك ناس بدأت تصدر بسبب هذا الموضوع”، وأعطى مثالا بأحد أقاربه الذي يقوم بتصدير الفاكهة بخسارة لدولة الإمارات لكنه يحقق أرباحا عندما يبيع العملة الصعبة للمستوردين في السوق السوداء.
ويُترجم الهبوط السريع والحاد في قيمة الجنيه بنفس السرعة إلى ارتفاع في أسعار السلع بمختلف أنواعها وبنسبة أعلى من قيمة الهبوط، بسبب حالة الاضطراب الناجمة عن مثل هذه التحركات، وهو ما يشكل عبئا على المستهلكين والتجار.
“أي انخفاض في الجنيه وارتفاع في الدولار يرفع الأسعار، لأنه يزيد تكلفة المنتج، لأن غالبية مكونات الصناعة والإنتاج مستوردة من الخارج، وبالتالي يتم تحميل التكلفة على المستهلك النهائي”، وفقا لعضو شعبة المستوردين باتحاد الغرف التجارية المصرية أحمد شيحة.
وأوضح شيحة في تصريحات صحفية إن التجار والمستوردين يعانون -في المقابل- تراجع حركة البيع والشراء، ونقص المخزون من السلع والبضائع بسبب القيود المفروضة على الاستيراد على خلفية نقص العملة الأجنبية، في حين يلجأ بعض التجار إلى تعويض تراجع الأرباح والمبيعات بزيادة أسعار البضاعة.
وأعلن “الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء” في مصر، أن معدل التضخم السنوي في المدن بلغ 33.7 في المئة في ديسمبر الماضي، ووفقا لإحصاءات الجهاز، ارتفعت أسعار الطعام والمشروبات 60.5 في المئة على أساس سنوي في ديسمبر.