في منطقةٍ مضطربة، أدركت مصر مبكرًا أنّ بناء اقتصاد قوي هو حصنها الحصين أمام تقلّبات الأوضاع، فوضعت خطة تستهدف مضاعفة معدل النمو الصناعي وتعميق الصناعة المحلية.
وقد حللت الحكومة تأثر الدولة المصرية بالأزمات العالمية الخارجية وحاولت التعامل معها بعدة سيناريوهات، بحسب تصريحات سابقة للمهندس أحمد سمير وزير التجارة والصناعة.
ونحو ذلك، اتخذت الدولة عدة خطوات، بدايةً بإطلاق أول علامة مصرية مسجلة باسم “بكل فخر صنع في مصر” عام 2016، ومرورًا بتدشين البرنامج القومي لتعميق التصنيع المحلي عام 2018، وانتهاءً بمبادرة “ابدأ” الرئاسية، التي أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي في أكتوبر من العام الماضي، إطلاقها كمبادرة تعمل بشكل أساسي على دعم وتوطين الصناعات الوطنية، للاعتماد على المنتج المحلي وتقليل الواردات.
“صنع في مصر”
وهذه الأخيرة، شهد الرئيس السيسي، الموقف التنفيذي لعدد من نماذج مشروعاتها ضمن فعاليات افتتاح الملتقي والمعرض الدولي السنوي للصناعة في دورته الثانية، أمس، حيث أكد أن الهدف الأكبر هو أن تغطي الصناعة احتياجات السوق المصري من كل شيء.
ولفت الرئيس إلى أن الدولة أنشأت 15 تجمعًا صناعيًّا؛ بناء على مطلب وزارة التجارة والصناعة، لتوفير الجهد والوقت على المستثمر، مؤكدا أن الهدف من إنشاء هذه التجمعات الصناعية، ليس مشاركة المستثمر في الربح؛ بل توفير كل المتطلبات، لكي يبدأ مشروعه فورًا، ويوفر فرص عمل جديدة.
وقال مجدي البدوي، نائب رئيس اتحاد عمال مصر، إن الرئيس وضع خريطة طريق لتطوير منظومة “صنع في مصر”، خلال كلمته التي ألقاها أمام الملتقى، مشيرا إلى أن أهم النقاط التي أكدها الرئيس هي دعم الدولة لرجال الأعمال من خلال إنشاء الدولة للمنشآت الخاصة والمشروعات الصناعية، من أجل إنهاء المشروعات في وقت قياسي وتوفير السيولة المالية لهم في شراء خطوط الإنتاج الجديدة.
من جهته، طالب المهندس محمد زكي السويدي رئيس اتحاد الصناعات المصرية، بإنشاء مجلس أعلى للصناعة، مشددا على أهمية هذه الخطوة من أجل إعطاء دفعة كبيرة للصناعة وحسن استخدام كل إمكانيات الدولة.
وقال السويدي الذي عدّ اتحاد الصناعات، “خط الدفاع الثاني للدولة” إن “المجلس الأعلى للصناعة سيكون دفعة قوية جدا للصناعة من خلال استكمال المسيرة، واستخدام كل إمكانيات الدولة والمساعدة في النمو الاقتصادي”.
وكانت الدولة دشنت الخريطة الاستثمارية الصناعية من أجل النهوض بالصناعة لتصبح مصر من الدول الرائدة صناعيا في الشرق الأوسط وإفريقيا، وقد ضمت هذه الخريطة 1825 فرصة استثمارية حقيقية حتى 20 سبتمبر 2023 بالإضافة عدد من الفرص الواعدة، يتمثل أبرزها في 4 قطاعات صناعية، هي، الصناعات الهندسية والإليكترونية بواقع 160 فرصة والصناعات الغذائية 142 فرصة والنسيجية 109 فرصة والمنتجعات والقرى السياحية 112 فرصة.
وكان من اللافت خلال افتتاح الملتقي والمعرض الدولي السنوي للصناعة في دورته الثانية، حديث الرئيس حول الأزمة في غزة، إذ أكد أن “مصر دولة قوية جدا لا تُمس” وأن جيشها “قادر على حمايتها”، وذلك تعليقا على القلق المتزايد لدى المصريين جراء حادثين أمنيين في منطقتي طابا ونويبع، حيث سقطت طائرتان مسيرتان كانتا تحلقان باتجاه الأراضي الفلسطينية. ولا ينفصل الحديث عن قوة مصر وقدرة جيشها على حمايتها عن الاقتصاد، إذ لا ينمو هذا الأخير إلا في بيئة مستقرة قوية بعيدًا عن الاضطرابات والتوترات.
دعم المنتج المحلي
وبينما تعكف مصر على توطين الصناعة المحلية، تتزايد حملات المقاطعة الشعبية للمنتجات الأجنبية الداعمة لإسرائيل، وقد أنشا مستخدمون صفحة على “فيسبوك” باسم “ادعم منتج بلدك” لتعريف المصريين بالمنتجات المحلية التي يتحقق باستهلاكها أمران: أولهما مقاطعة الشركات التي تدعم الاحتلال الإسرائيلي، وثانيهما استغلال الفرصة لدعم المنتج المحلي، الأمر الذي من شأنه تخفيف فاتورة الواردات في وقت تعاني مصر فيه أزمةً في العملة الصعبة.
وتحتاج الدولة إلى الاستيراد بنحو 90 مليار دولار سنويا من أجل شراء احتياجات المواطنين من الخارج. وعلى مدار العقود الماضية، تضاعفت فاتورة الواردات المصرية 4 مرات بفعل الزيادة المطردة في عدد السكان في الداخل، وصولا لأكثر من 105 ملايين نسمة، وفقا لوزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية، الدكتورة هالة السعيد، التي أوضحت أن الطلب على الغذاء أصبح أكبر من المعروض، ما دفع إلى استيراد حجم كبير من الموارد الغذائية الأساسية كالقمح واللحوم والزيوت، رغم الجهود الكبيرة في المنظومة الزراعية المتطورة.
وأثمرت جهود الدولة في هذا الملف نجاحًا ملحوظا، إذ انخفضت فاتورة الاستيراد من مختلف دول العالم بنسبة 20.1 بالمئة، بقيمة 11.6 مليار دولار لتسجل نحو 46.3 مليار دولار خلال أول 7 شهور من العام الجاري، مقابل 57.9 مليار دولار خلال الفترة ذاتها من العام الماضي، وفقا لنشرة التجارة الخارجية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وضخت الدولة 128.2 مليار جنيه لتحسين أداء قطاع التجارة والصناعة خلال التسع سنوات الماضية، كما ضخت 100.7 مليار جنيه استثمارات لقطاع الصناعات التحويلية خلال عام 2023-2024.
ويرى المهندس محمود محسن، عضو غرفة الصناعات الهندسية باتحاد الصناعات، أن هناك ضرورة ملحّة لتفعيل قانون تفضيل المنتج المحلي في العقود الحكومية، لما له من أهمية في فتح الطريق أمام الصناعات المختلفة في مواجهة الاستيراد. ويوضح فى تصريحات صحفية أن الاعتماد بصورة أكبر على المنتجات المحلية في العقود الحكومية، سيكون له انعكاس على عدد من المؤشرات أهمها، أن ذلك سيزيد الطلب على الإنتاج المصري ومن ثم زيادة إنتاجية المصانع، وهو ما سيؤدى إلى زيادة في الناتج المحلى الإجمالي.
وتابع أن زيادة الطلب على إنتاج المصانع سيدفع هذه المصانع إلى زيادة الاستثمار المحلى وهو ما يخلق فرص عمل جديدة، ومن ثم تراجع معدلات البطالة فى البلاد، أما عدم الالتزام بتفعيل القانون 5 لسنة 2015، فهذا يجعل المنافسة غير عادلة، خاصة أن هناك بعض الجهات تقوم بتفضيل الإنتاج الأجنبي، دون النظر حتى في وضع المنتج المحلي.
وكثف الرئيس السيسي خلال الأشهر الماضية توجيهاته بتعزيز الخطوات الشاملة للدولة في اتجاه توطين الصناعة وتعميق التصنيع المحلي، بالتعاون مع القطاع الخاص وكبرى الشركات الأجنبية، وتقديم التسهيلات اللازمة لإنشاء المزيد من المصانع الخاصة بتصنيع المكونات ذات الصلة في مصر، وبما يساعد على تحقيق الاكتفاء الذاتي محليا وتوفير العملة الأجنبية، فضلا عن المساهمة في تنفيذ الاستراتيجية العامة للدولة بتكثيف العمل على تعزيز الصناعة الوطنية في مختلف المجالات الإنتاجية.
بداية الغيث قطرة
وفي ذلك، نجحت مبادرة “ابدأ” في توطين 23 صناعة جديدة لأول مرة في مصر، كما تمكنت من جذب استثمارات أجنبية مباشرة والتنسيق بين المستثمرين وكبرى الشركات العالمية لتوقيع اتفاقيات تصنيع مشترك مما يضمن قدرة المنتج المصري على المنافسة عالميًا.
وفي يوليو الماضي، شهد المهندس طارق الملا وزير البترول والثروة المعدنية تسليم أول حفار بترول (صنع في مصر)، وذلك في مصنع الشركة المصرية الصينية لتصنيع أجهزة الحفر بالعين السخنة.
كما سلمَّت الهيئة العربية للتصنيع، في الشهر ذاته، وزارة البيئة ممثلة في جهاز تنظيم إدارة المخلفات، مرحلة جديدة من المعدات والمركبات تحت شعار “صنع في مصر”، التي ضمت اصطفاف مجموعة من اللوادر والمعدات من تجميع وتجهيز مصنع قادر للصناعات المتطورة، التابع للهيئة.
وفي أغسطس، شهد الفريق مهندس كامل الوزير، وزير النقل، تسليم قطار مترو جديد للهيئة القومية للأنفاق بمصنع سيماف لتصنيع عربات المترو، التابع للهيئة العربية للتصنيع.
وفي أكتوبر، أعلنت شركة “أورايمو”، المتخصصة في مجال الأكسسوارات الذكية في إفريقيا، عن افتتاح أول خط إنتاج لها في مصر، وذلك في مصنع وادي السيليكون بمنطقة العين السخنة، ضمن نطاق المنطقة الاقتصادية لقناة السويس.
ومن أمثلة التحول إلى الصناعة المحلية، أوضح الدكتور أيمن حمزة المتحدث باسم وزارة الكهرباء و الطاقة أن جميع العدادات المسبوقة الدفع التي يتم تركيبها لدى المشتركين “صناعة مصرية”، وتعمل بجودة عالية وتحمل اسم “صنع في مصر”، موكدا أن الوزارة تعتمد على المنتج المحلي فقط.
ومن جهته، أكد وزير الاتصالات، عمرو طلعت، أنه تم جذب 4 شركات عالمية لتصنيع أجهزة المحمول في مصر، وعدم الاكتفاء بتجمعيها، موضحا أنه “لسنوات طويلة اعتدنا على التجميع التي لا تزيد قيمته المضافة عن 10 أو 15 بالمئة، عكس التصنيع، تم الاتفاق مع الشركات على 40 بالمئة شرطًا للتوقيع، وسيزيد تدريجيًا، و3 شركات بدأت، والرابعة هي سامسونج بتأسيس المصنع”.
وجدير بالذكر أن عدد المناطق الصناعية في مصر ارتفع من 121 سنة 2014 إلى 147 منطقة صناعية سنة 2022، منها 17 منطقة صناعية بنظام المطور الصناعي بمساحة 22.9 مليون متر مربع.
الإعفاء من الضرائب
وكانت توجيهات الرئيس الأخيرة بالإعفاء من أنواع الضرائب كافة، عدا ضريبة القيمة المضافة، حتى 5 سنوات، للمشروعات الصناعية التي تستهدف صناعات استراتيجية، بمثابة مؤشر واضح على اتجاه الدولة نحو تعميق التصنيع المحلىي، إذ لإن تخفيف أعباء الصناعة يسهم في خلق المناخ الملائم لزيادة الإنتاج والصادرات وتوفير الوظائف وحل أزمة العملة الصعبة وفتح الأسواق الجديدة.
ويبلغ حجم الصادرات المصرية الصناعية خلال عام 2022-2023 نحو 28.4 مليار دولار، فيما بلغت الصادرات المصرية من السلع غير البترولية بنهاية 2022 نحو 35.8 مليار دولار، وفقا للبيانات الرسمية.
وكان القطاع الصناعي يدفع عدة أنواع من الضرائب، ضريبة الدمغة وضريبة المرتبات وضريبة الدخل العام بالإضافة إلى خصم 1 بالمئة أرباحًا تجارية وصناعية، لذلك جاءت الإعفاءات الضريبة بداية مهمة في ملف دعم الصناعة، وفقا للدكتور كمال الدسوقي عضو مجلس إدارة اتحاد الصناعات، الذي يوضح أن المصانع في حاجة إلى السيولة المالية لدفع جزء من التكاليف الإنتاجية التي قفزت بصورة ملحوظة منذ بداية جائحة كورونا وصولا إلى الحرب الروسية الأوكرانية التي تسببت في ارتفاع تكاليف الإنتاج بنسب تجاوزت 60 بالمئة.
هذه الزيادة خلقت بعض الأعباء أمام القطاع الإنتاجي ومع إزالة هذه التحديات وتوفير احتياجات الصناعة من الخامات الإنتاجية ورفع جزء من الأعباء الضريبة عن الصناعة فإن ذلك يخلق مناخا ملائما للخروج من الأزمة الحالية، وفقا له.