ملفات وحوارات

هل يقضي التعويم الكامل على “السوق السوداء” ويحل مشكلات الجنيه تماما؟

يحبس المصريون أنفاسهم، ترقبًا لقرارٍ جديد بخفض قيمة الجنيه أمام الدولار الأمريكي الذي يبلغ متوسط سعره في البنوك حاليًا 30.9 جنيه، في حين أنه يتأرجح بين بين 35 و36 جنيها في السوق الموازية.

وبينما كان يتوقع كثيرون أن يعلن البنك المركزي المصري، في اجتماع لجنة السياسة النقدية يوم الخميس، رفع أسعار الفائدة وخفض قيمة الجنيه، خالف البنك التوقعات ولم يقترب من العملة المحلية، واكتفى برفع الفائدة بواقع نقطتين مئويتين.

رحلة التعويم

كان الجنيه مربوطا بالدولار إلى حد كبير حتى يناير 2003 عندما قررت الحكومة برئاسة عاطف عبيد، تعويمه وفك ارتباطه بالدولار، ليصبح سعر العملة الأمريكية 6 جنيهات بعدما كانت بـ3 جنيهات.

وإبّان الثورة الشعبية التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك عام 2011، وقع الجنيه تحت ضغوط قوية، مع الانخفاض الحاد في الاحتياطي النقدي، مما اضطر البنك المركزي للسماح بتخفيض جديد.

ومن هذا التاريخ بدأ البنك يقنن ما يتاح للبنوك من دولارات من خلال عطاءات رسمية استغلها في تحديد سعر الصرف، ومع تزايد الاختلالات تنامت السوق السوداء.

وفي عام 2015 فرض البنك المركزي قيودا على الايداعات والسحب بالعملات الأجنبية بالبنوك وسمح للجنيه بالانخفاض تدريجيا نحو عشرة في المئة.

لكن هذه القيود أدت إلى تفاقم نقص العملة الأجنبية وأضعفت ثقة المستثمرين الذين أصبحوا يواجهون صعوبات في تحويل أرباحهم للخارج وزادت من صعوبة تخليص الإجراءات للواردات في المواني.

ومنذ عام 2016، يطبق البنك المركزي نظام سعر صرف مرنا، يسمح بهامش للعرض والطلب في توجيه سعر الصرف، ومنذ ذلك الحين انخفض الجنيه ثم عاد للاستقرار لفترة طويلة قبل أن يُقدِم المركزي على أكثر من خفض للسعر في ظل شح كبير لموارد العملة الصعبة في مصر.

وفي مارس الماضي، انخفض سعر الصرف الرسمي للجنيه بنحو نصف قيمته، إذ يدير البنك المركزي العملة عند نحو 30.80 إلى 30.90 للدولار منذ ثلاثة أسابيع، مقابل 15,6 في مارس 2022، ولكن القيمة الفعلية له تتراوح بين 35 و36 جنيها أمام الدولار في السوق الموازية.

يُطلق على هذه العملية اسم “التعويم المحكوم” أو “المُدار”، وهو الذي تتحكم فيه السلطات في قيمة العملة بدلا من السوق. وقد اعتاد البنك المركزي أنه يخفض قيمة الجنيه مقابل الدولار ثم يعود إلى التدخل في السعر وتثبيته، وفقال للخبيرة الاقتصادية كالي ديفيس التي تعتقد أن البنك يدعم الجنيه مقابل الدولار لسنوات عديدة، لمواءمة سعر الصرف الرسمي مع السعر العادل.

ظهور السوق الموازية

وقد أدى اتباع سياسة التعويم المحكوم إلى عودة ظهور السوق الموازية، التي يُتداول الدولار فيها بزيادة بين 20 و30 في المئة على السعر الرسمي في البنوك، وفقا لتقرير عن ” جولدمان ساكس”.

وكانت هذه السوق قد اختفت في أعقاب التعويم الذي جرى عام 2016 قبل أن تعود للنشاط في نهاية العام الماضي مع انخفاض موارد الدولار للبلاد.

ومعنى هذا أن التعويم الحر أو نظام “سعر الصرف المرن” دون عودة للتدخل في سعر صرف الجنيه، قد يؤدي إلى اختفائها مرة أخرى، لكنه قرار ليس سهلا، لأنه ينطوي على آثار اجتماعية شديدة على المدى القصير، وفقاً لما تشير إليه الخبيرة كالي ديفيس.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا تستطيع الحكومة المجازفة وتنفيذ تعويم حر، لأن هذا قد يتسبب في انخفاض مُبالغ فيه للعملة وقد لا يعكس القيمة الحقيقية للجنيه، كما أن الوضع الحالي غير ملائم في ظل مضاربات كبيرة على سعر العملة، وفقا للباحث الاقتصادي علي متولي.

أما الخبير الاقتصادي، عبد النبي عبدالمطلب، فيقول في تصريحات أخرى إن “حجم السوق السوداء الحالي ضئيل جدا بالمقارنة بحجم نشاطها خلال السنوات السابقة، ويمكن للدولة القضاء عليها بسهولة، لكنها لا تفعل ذلك، إذ إنها تسمح في بعض الأوقات بعمل السوق السوداء كأداة لقياس الرأي العام حول بعض القرارات”.

ويستشهد في حديثه بتمكن الدولة سابقا من “القضاء” على السوق السوداء عند ظهورها في الفترة من 2015 إلى 2017، وكذلك نجاحها في “الوقف التام” لهذا النشاط في أغسطس 2022.

من جانبه يعتقد الخبير الاقتصادي، محمد أنيس، أن التحريك الأخير لسعر صرف الدولار في يناير الماضي، قد أدى لسد الفجوة السعرية بين السوق الرسمية والسوداء، ومع أنها لم تختف بشكل كامل لكن “الوضع تحسن” مقارنة بعام 2022.

ولا يرفض أنيس فكرة أن “السوق السوداء” قد تستخدم كأداة لمعرفة توجهات الرأي العام، لكنه ينفي “ترك الدولة لها بشكل عمدي”.

السوق الموازية في الخارج

حتى على مستوى “المصريين بالخارج” فقد نجحت السوق الموازية إلى التمدد نحوهم، وأخبر مغتربون “البورصجية” بأنهم يستخدمون تجار السوق السوداء لإرسال الأموال إلى مصر.

ومنذ أغسطس الماضي، يخشى المصريين في الخارج من اتجاه الجنيه إلى مزيد من الضعف أو التخفيض، ويفسر انخفاض قيمة تحويلاتهم هذه الخشية.

ونتيجةً لذلك يقتنص تجار السوق السوداء الدولار منهم ويحولون قيمته بالعملة المصرية إلى ذويهم، بفرق سعر كبير.

وسجلت تحويلات المصريين في الخارج بنسبة 23 بالمئة خلال النصف الأول من العام المالي الجاري، لتسجل نحو 12 مليار دولار، وفقا لبيانات ميزان المدفوعات المصري للعام المالي 2022/ 2023.

وكان البنك الدولي قد توقع أن يبلغ حجم تحويلات المصريين بالخارج نحو 32.3 مليار دولار بنهاية العام الماضي، لكن إجمالي التحويلات خلال عام 2022 بلغ نحو 28.3 مليارًا فقط، بحسب الأرقام المعلنة حديثا.

وأدى تراجع التحويلات إلى الحد من تحسن عجز الميزان الجاري، الذي سجل 1.8 مليار دولار في النصف الأول من العام المالي الجاري مقابل 7.8 مليار دولار في الفترة نفسها العام المالي الماضي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *