بموجب قانون صادر في عام 1917، هناك حدٌّ إجماليٌّ ثابتٌ بالدولار الأمريكي للاقتراض (يُعرف باسم سقف الدين)، لا يمكن زيادته إلا بموافقة الكونغرس الأمريكي ورئيس الولايات المتحدة.
وقد كانت الولايات المتحدة على أعتاب التعثر في سداد ديونها الفيدرالية للمرة الأولى في تاريخها، في الخامس من شهر يونيو الماضي، قبل أنّ تتوصل إدارة الرئيس جو بايدن إلى اتفاق مع الكونغرس لرفع حد “سقف الدين” قبل أيام من حلول الموعد النهائي الذي كان سيجعل أكبر اقتصاد في العالم يتخلف عن سداد ديونه.
وعلى الرغم من أن هذا الاتفاق جنّب الولايات المتحدة تخلّفًا كارثيًّا عن سداد ديونها البالغة 31.4 تريليون دولار، تحقّق ما كانت تتحاشاه الإدارة الأمريكية، إذ لم يشفع لها ذلك لدى مؤسسة “فيتش”، التي اعتبرت أن مجرد الجدل حول “سقف الدين” إلى جانب أزمات أخرى، أسبابًا كافية لتجريد البلاد من تصنيفها الائتماني السيادي من الدرجة الأولى.
“لديك سقف الدين، وتمرد 6 يناير. ومن الواضح، إذا نظرت إلى الاستقطاب مع كلا الحزبين … فقد ذهب الديمقراطيون إلى أقصى اليسار والجمهوريون إلى أقصى اليمين، لذا فإن الوسط ينهار نوعًا ما بشكل أساسي”، بتلك الكلمات برّر المدير البارز في “فيتش” ريتشارد فرانسيس، قرار الوكالة، مضيفا أنها استندت في قرارها جزئيا إلى التدهور الملحوظ في الحوكمة الأمريكية، والذي يقلل من الثقة في قدرة الحكومة على معالجة القضايا المالية والديون.
أوضحت “فيتش” أن قرار خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة درجة واحدة إلى (+AA)، جاء بسبب “تذبذب منظومة إدارة البلاد”، الذي “تَجلَّى في المواجهات المتكررة حول سقف الديون، وصدور قرارات في اللحظات الأخيرة”. يُعزى ذلك إلى أن الولايات المتحدة تتعرض كل بضعة أعوام -نتيجة السياسة التي أقرتها بنفسها- لاحتمال التخلف عن سداد الديون.
وتتوقع الوكالة أن يصل الدين الأمريكي إلى 118 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2025، أي أعلى بثلاث مرات من متوسط 39 بالمئة بين البلدان التي حصلت على أعلى تصنيف (AAA)، وتتوقع أن النسبة سترتفع أعلى على المدى الطويل.
هذه ليست الضربة الأولى
وما أشبه الليلةَ بالبارحة، إذ تلقّت واشنطن ضربةً مماثلة قبل عقدٍ من الزمان وسط ظروف مشابهة؛ إذ عندما اقتربت من تجاوز سقف ديونها في عام 2011، خفضت وكالة الائتمان “ستاندرد آند بورز” تصنيف البلاد بمقدار درجة واحدة، في إجراء كان الأول من نوعه في تاريخ الولايات المتحدة. وبررت الوكالة قرارها حينئذٍ بـ”مخاطر سياسية” مردُّها إلى إجراءات غير كافية لمواجهة العجز في الميزانية. أي أنّ خفض التصنيف في المرتين، جاء على خلفية المواجهات الحادة بين السياسيين بشأن سقف الدين ومعدلات الاقتراض.
وتتشابه الضربتان كذلك في أنهما وقعتا على إدارتين ديمقراطيتين، فقد كانت الأولى في عهد الرئيس باراك أوباما، كما تتشابهان في ردة الفعل، إذ اتهمت الحكومة وكالة “ستاندرد آند بورز” بأنها استندت في قرارها إلى أخطاء خطيرة في الحسابات، ووصفته بأنه قرار معيب، واعترضت بقوة على توقعات محللي الوكالة، وهو ما يشبه إلى حدٍ كبير ردة فعل الإدارة الحالية التي اعتبرت القرار “تعسفيا ويستند إلى بيانات قديمة”.
ما المقصود بالتصنيف الائتماني؟
في العالم، هناك وكالات ومؤسسات عديدة تقدم خدمة التصنيف الائتماني، بيد أن أشهرها ثلاث مؤسسات أمريكية، هي “موديز” و”ستاندر آند بورز” و”فيتش”، بالإضافة إلى مؤسسة صينية واحدة تسمى “داجونج”. وعلى الرغم من اعتراف بعض الدول الغربية بهذه الأخيرة، تهيمن المؤسسات الأمريكية الثلاث على سوق التصنيفات الائتمانية في العالم. وتُعَدّ “فيتش” أصغر هذه “الثلاث الكبرى”.
والتصنيف الائتماني هو عملية تقييم للجدارة الائتمانية لدولة ما، أو قدرة تلك الدولة على الحصول على القروض اللازمة، ومدى وفائها بما عليها من التزامات في موعدها، مع الإشارة إلى مستوى المخاطر المرتبطة بإقراض الأموال لها. فإذا كان التصنيف الائتماني للدولة قويا، فهذا معناه أن لديها جدارة ائتمانية تمكنها من الحصول على القروض وسدادها في موعدها. عندئذ، تكون تكلفة حصولها على الديون منخفضة، وإذا كانت الجدارة الائتمانية للدولة ضعيفة، تكون تكلفة الاقتراض عالية (معدل فائدة أعلى)، بل وقد تصرف الدائنين عن إقراضها، على الرغم من احتياج الدول لتلك القروض.
كما ينعكس التصنيف الائتماني بالإيجاب أو بالسلب على ثقة المستثمر في دولة ما أو مؤسسة ما وعلى تكلفة استدانتها من الأسواق المالية. وبناءً عليه يقرر المستثمرون ما إذا كانوا سيستثمرون في سندات الديون الصادرة عن الجهات التي ترغب في الاقتراض أو لا.
وفي عملية التصنيف، تستخدم الوكالات أحرفا وأرقاما ورموزا لوصف الجدارة الائتمانية، تبدأ بـ(AAA)، وهو أعلى تصنيف للجدارة الائتمانية، وله درجات تابعة مثل (AA)، أو (A)، ثم تصنيف (BBB) ويعني جدارة ائتمانية متوسطة، ودرجاته المختلفة، ثم (CCC) الذي يعبر عن جدارة ائتمانية عالية المخاطر، ثم التصنيف الأخير (DDD) ويشير إلى جدارة ائتمانية متعثرة، ولكل منهما درجات مختلفة.
كما تقدّم تلك المؤسسات خدمة مراقبة الائتمان، إذ يُستخدم الرمز (+) للدلالة على ترقية الدولة أو الشركة المقترضة إلى صفة “إيجابية”، والرمز (-) لخفض توقّعات التقييم المقبل، فيما تُترَك بلا رموز للدلالة على عدم اليقين.
في بيان “فيتش”، جاء خفض درجة الولايات المتحدة للتصنيف الائتماني من (AAA) إلى (+AA)، ما يعني أن واشنطن لم تعد صاحبة ما تعرّفه “فيتش” بأنه “أعلى جودة ائتمانية”. وتشير “فيتش” إلى أن التصنيف الجديد يدل على أن “توقعات وجود مخاطر تخلف عن السداد محدودة للغاية”، إلا أن هذا يشكل تراجعا عن “أدنى توقع لمخاطر التخلف عن السداد” لمقترضين مصنفين (AAA).
ماذا حدث في المرة الأولى؟
عقب خفض وكالة “ستاندرد آند بورز” التصنيف الائتماني للحكومة الأمريكية في 2011، برزت مخاوف حول مدى قوة الاقتصاد الأمريكي. مع ذلك كان لهذه الخطوة تأثير محدود على المدى الطويل، إذ أقبل المستثمرون على الأصول الأمريكية مجددا، وتراجعت عوائد الديون الحكومية الأمريكية بنهاية 2011.
وقتئذٍ تراجعت الأسهم، لتقترب مما يسمى “السوق الهابطة”، لدرجة أن “كل من كان يقرأ الصحف، كان يستنتج أن واشنطن لديها مشكلة مالية خطيرة للغاية وطويلة الأجل” وفقا لرئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي “البنك المركزي الأمريكي” آنذاك، بن برنانكي.
بالرغم من كل ذلك اندفع المستثمرون لشراء السندات، وظلت الأسهم غير مستقرة لشهرين آخرين، ثمّ انطلقت السوق إلى الأمام ودخلت تحت ما يسمى “السوق الصاعدة”، بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال” التي ذكرت أن المئات من التحذيرات حول خطورة الأوضاع المالية خلال عقود تجاهلها المستثمرون أو اعتبروها فرصة للاستثمار في أسهم أو سندات منخفضة القيمة.
إلا أن “وول ستريت جورنال” تحذر من أن يستمد المستثمرون ارتياحا زائفا من الماضي ومن التصور بأن التحذيرات المالية ما هي إلا كتحذيرات راعي الغنم الكاذبة المتكررة من وجود ذئب، مشددة على أن تحذير وكالة “فيتش” يأتي في وقت يصعب تجاهله. وأشارت إلى ارتفاع معدل أسعار الفائدة إلى مستويات غير مسبوقة بسبب سياسة التشديد النقدي التي ينتهجها مجلس الاحتياطي الاتحادي، فضلا عن تقدير مكتب الميزانية في الكونجرس أن يصل صافي الفائدة إلى 745 مليار دولار في السنة المالية 2024، وذلك بعد أن حافظ مجلس الاحتياطي على أسعار الفائدة منخفضة جدا، وكانت فاتورة دافعي الضرائب لتمويل الديون المتراكمة في الماضي متواضعة.
وذكرت الصحيفة أنه نسبة لأن ارتفاع معدلات الفائدة يدفع احتياجات التمويل إلى أعلى، فإنه على الرغم من ذلك، أصبحت قدرة الحكومة الأمريكية على تغيير المسار المالي دون اتخاذ تدابير كارثية سياسيا مثل خفض المستحقات وطباعة النقود بصورة علنية أصبحت أكثر محدودية.
ما التأثير المتوقع بعد قرار “فيتش”؟
نقلت “بلومبيرغ” عن مايك سكورديليس، رئيس قسم الاقتصاد الأمريكي في شركة “ترويست فاينانشيال كورب” القول، إن تخفيض تصنيف “فيتش” هو إشارة إلى أن الولايات المتحدة بحاجة إلى تنظيم عملية الميزانية.
لكنّ عددًا غير قليل من الخبراء الذين تحدثوا إلى شبكة “سي إن إن الأمريكية، قللوا من تأثير هذا القرار على الاقتصاد الأمريكي، خصوصا أن التصنيف لم ينخفض انخفاضا كبيرا، فكأنه يشير إلى خفض جدارة الائتمان الخاصة بك من جيد للغاية إلى جيد جدا، بحسب قول مارك جولدوين نائب الرئيس الأول ومدير السياسات الأول للجنة الميزانية الفيدرالية المسؤولة، الذي يقول بعبارة أخرى، “لا يزال يُنظر إليك على أنك تتمتع بجدارة ائتمانية عالية. وفي حالة الولايات المتحدة، التي لا تزال تُعتبر على نطاق واسع استثماراً آمناً لبقية العالم، فمن غير المرجح أن يتغير ذلك في أي وقت قريب”.
وجاء في تقرير الشبكة الأمريكية أنه قد لا تحدث أي تداعيات سلبية كبيرة ودائمة من تخفيض وكالة فيتش هذا الأسبوع التصنيف الائتماني المفاجئ للولايات المتحدة، ليس للاقتصاد وليس للمستهلكين وليس لقدرة الحكومة على الاقتراض.
على الصعيد العالمي، ولأن الولايات المتحدة هي الدعامة الأساسية في النظام المالي العالمي، فقد يكون لخفض التصنيف الائتماني آثار مضاعفة واسعة النطاق. قد يدفع الدول الأخرى إلى إعادة تقييم تعرضها للمخاطر، مما يؤدي إلى خفض محتمل للتصنيفات السيادية الأخرى.