ثمّةَ أيامٌ لا تُنسى في التاريخ كيوم أمس، التاسع عشر من نوفمبر 2025. يوم شهدت فيه مصر حدثًا تاريخيًا غير مسبوق: تركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى في محطة الضبعة، بجانب التوقيع على أمر شراء الوقود النووي، في خطوة محورية، ضمن مسيرة استكمال المشروع النووي المصري، ما عدّه خبراء “خطوة أولى لإنتاج الطاقة النووية”.
في هذا الأمس، لم يكن ذلك الحدث الذي يجمع بين الرؤية الوطنية والإرادة العلمية، ورفع العلم المصري عاليًا في سماء الطاقة النووية العالمية، مجرد تركيب قطعة معدنية ضخمة، بل كان إعلانًا عن انتقال مصر من الحلم النووي إلى واقعٍ ملموس، صفحة جديدة في كتاب طاقة كتب بحبر العزيمة والصبر والصرامة في التخطيط.
كان ذلك الأمس قبل عقود، مستقبلًا نحلم بالوصول إليه، وكانت كلمات الرئيس عبد الفتاح السيسي بمثابة تأكيد على ذلك، حين قال: “اليوم نطوي صفحة حلم استمر لعقود، ونبدأ مرحلة جديدة من المستقبل”، مضيفًا أن “ما نراه اليوم صرح وطني عملاق، خطوة استراتيجية لتعزيز أمن الطاقة، ودعم لرؤية مصر 2030، وإسهام في جعل مصر مركزاً إقليمياً للطاقة، واستثمار في جيل جديد من الكوادر”.
وكذلك قال رئيس الوزراء، الدكتور مصطفى مدبولي، الذي وصف الحدث بأنه “خطوة استراتيجية مهمة” تؤكد قدرة الدولة على تحقيق مشروع طالما حلمت به منذ منتصف القرن الماضي. وأوضح أن الفعالية تضمنت توقيع أمر شراء الوقود النووي واتفاقية التعاون مع شركة روساتوم الروسية، وأن هذه الخطوة تعزز مكانة مصر في مجال الطاقة النووية السلمية. كما وجه الشكر لجميع الجهات المسؤولة عن المشروع، من وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة إلى هيئة المحطات النووية وشركة روساتوم، مشيرًا إلى الجهد الوطني المبذول في هذا المشروع القومي الضخم.
عودة إلى حلم قديم
حين تعود مصر إلى مشروعها النووي بعد نصف قرن من التوقف والترقب، فهي لا تعيد إحياء فكرة قديمة، بل تعيد ترتيب أولوياتها، وتعزيز سيادتها داخل عالم يعاد تشكيله على وقع تحولات الطاقة. العالم الذي كان يدار بالبترول والغاز الطبيعي، ينتقل اليوم إلى معادلة جديدة، لا مكان فيها للدول التي تكرر ما فعلته بالأمس.
تتابعت الكلمات الرسمية لتبرز الجانب الوطني للمشروع، وهو ما أكده رئيس هيئة المحطات النووية، الدكتور شريف حلمي، مشيرًا إلى أن المحطة ستعمل بأيدي مصرية 100%، وأن المشروع الأكبر من نوعه حاليًا على مستوى العالم، يجرى على مسارات متعددة تشمل التصنيع، والإنشاءات، والتجارب، والتدريب. وأوضح حلمي، خلال تصريحات صحفية، أن الانتهاء من تركيب وعاء ضغط المفاعل يمثل مرحلة محورية، انتقالًا من مرحلة الإنشاءات إلى مرحلة تركيب المعدات والأنظمة النووية.
وأضاف حلمي أن المحطة تتكون من أربع وحدات، كل منها بقدرة 1200 ميجاوات، بإجمالي 4800 ميجاوات، تنتج ما يقارب 35 مليار كيلووات ساعة سنويًا، وهو ما يوفر نحو 7 مليارات متر مكعب من الغاز لو كانت الطاقة ستُنتج بالوقود الأحفوري. وأكد أن المفاعلات من طراز VVER-1200 من الجيل الثالث المتطور، وأكثرها أمانًا في العالم، ومصممة لتحمل زلازل تصل إلى 8 درجات على مقياس ريختر، وموجات تسونامي بارتفاع 14 مترًا، وأعاصير، وحتى اصطدام طائرة تجارية وزنها 450 طنًا.
البعد الاقتصادي والأمان النووي
وعن التمويل، أوضح حلمي أن المشروع ممول بقرض ميسر من الحكومة الروسية، وأن تكلفة إنتاج الكهرباء منه ستكون منخفضة عند التشغيل، مؤكداً أن المشروع يسهم في دفع عجلة الاقتصاد وتوطين الصناعات وخلق فرص عمل كبيرة، من خلال مشاركة شركات وأيدي عاملة مصرية، ما يعكس الأثر الاقتصادي والاجتماعي للمحطة في المنطقة المحيطة بالموقع.
ومن جانبه، سلط وزير الكهرباء والطاقة المتجددة، محمود عصمت، الضوء على البعد الاقتصادي المباشر للمشروع، مؤكدًا أن تشغيل المفاعل الأول، المتوقع دخوله الشبكة القومية خلال 3 إلى 6 أشهر، سيحقق توفيرًا في الغاز الطبيعي يصل إلى نحو مليار متر مكعب سنويًا، ويُسهم في توفير 2.6 إلى 4 مليارات دولار سنويًا، مما يعكس أثر الطاقة النووية في تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وتعزيز أمن الطاقة في البلاد. وأوضح أن المشروع يوفر فرص عمل ضخمة لنحو 30 ألف عامل، بمشاركة 130 شركة، وأن الكوادر المصرية المدربة في روسيا ستتولى إدارة المفاعلات عند بدء التشغيل، مع محاكاة كاملة للمحطة لضمان أعلى مستوى من الجاهزية التشغيلية.
أما عن الأمان النووي، فقد شدد الوزير على أن المحطة تعتمد على أحدث تقنيات التشغيل النووي وأنظمة حماية متعددة تضمن استمرار التشغيل وعدم حدوث أي مخاطر، مؤكدًا أن مساهمة الهيئة العربية للتصنيع في توطين وتصنيع بعض مكونات الصناعة النووية داخل مصر يمثل قفزة نوعية للقدرات المحلية. كما كشف عن اتفاقية لتصنيع المفاعلات النووية الصغيرة العائمة، التي يمكن نقلها لتغذية المناجم والمناطق النائية، وهو ما يمثل مستقبلًا واعدًا للطاقة الموزعة في مصر.
وفي ضوء بُعده التاريخي، أشار نائب رئيس هيئة المحطات النووية سابقًا، الدكتور علي عبد النبي، إلى أن محطة الضبعة النووية تمثل نقلة حضارية وتكنولوجية لمصر، وتوازي في أهميتها مشاريع قومية عملاقة مثل السد العالي وصفقات التسليح النوعية. وقال إن المشروع لا يقتصر دوره على توليد الكهرباء فحسب، بل يمتد ليكون أمنًا تكنولوجيًا وسياسيًا واستراتيجيًا، بفضل نقل التكنولوجيا وتدريب الكوادر المصرية، مما يعزز قدرات الشركات والمصانع المحلية على المنافسة عالميًا.
محاولات خارجية لإيقافه
بدوره، شدد النائب الأسبق لرئيس هيئة المحطات النووية، الدكتور محمد منير مجاهد، على أن مصر واجهت عبر عقود طويلة عقبات دولية لإيقاف برامجها النووية، لكنه أكد أن اختيار موقع الضبعة جاء بعد دراسة دقيقة وشاملة، وأن المشروع يمثل استمرارًا لإرادة مصر في تحقيق أمنها الطاقي، رغم محاولات تعطيله على مدار السنوات.
وفي البعد الفني، أوضح مجاهد أن المفاعلات الروسية المقرر تركيبها هي من نوع الماء العادي المضغوط، والتي تعمل تحت ضغط عالٍ لرفع درجة غليان الماء وتحويله إلى بخار يدير التوربينات المرتبطة بمولدات الكهرباء، وأن وعاء الضغط الذي تم تركيبه يمثل قلب المفاعل، ويحتوي على أعمدة الوقود النووي وأجهزة التحكم، وأن إنتاج هذا الوعاء يتطلب مصانع خاصة في عدد محدود جدًا من الدول، ما يوضح طبيعة التقنية المتقدمة للمشروع.
ومن الجانب الاقتصادي، يرى الخبراء أن المشروع يعكس قدرة مصر على تحقيق استقلال استراتيجي وتوفير الكهرباء بتكلفة منخفضة، مؤكدين أن تكلفة إنتاج الكهرباء من المفاعل النووي الواحد أقل بكثير من الوقود الأحفوري، مما يتيح توجيه الغاز الطبيعي للصناعات الأعلى قيمة مثل البتروكيماويات، ويتيح تصدير الكهرباء إلى دول الجوار، ما يعزز الإيرادات بالعملة الصعبة.
سيوفر لمصر.. الكثير
إبراهيم علي العسيري، كبير المفتشين السابق بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، يؤكد أن تركيب وعاء الضغط سيوفر لمصر نصف استهلاكها من الطاقة، وأن خطوة وضع وعاء الضغط العالي تحرك المشروع خلال سنتين إلى ثلاث سنوات نحو الإنتاج. بينما أكد يسري أبو شادي، خبير الشؤون النووية، أن الطاقة النووية هي أحد أرخص مصادر الطاقة على المدى الطويل، مع وجود أنظمة أمان متعددة، بما في ذلك وعاء انصهار قلب المفاعل، الذي يضمن احتواء الوقود النووي دون أي تلوث.
وأوضح أستاذ هندسة الطاقة، سامح نعمان، أن المحطة ستوفر 4.8 جيجاوات من الكهرباء المستدامة على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، مما يعزز استقرار منظومة الكهرباء، ويضمن استقرار الطاقة للمستثمرين، ويتيح تحقيق أهداف مزيج الطاقة للوصول إلى 42% طاقة متجددة بحلول عام 2030، ويخلق أمانًا استراتيجيًا متعدد الأبعاد.
إلى ذلك، صرح محمد أنيس، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع، أن مشروع الضبعة النووي يوفر للطاقة المستهلكة نصف احتياجات مصر، ويخفض التكاليف السنوية للطاقة مقارنة بالوقود الأحفوري، ما يتيح إعادة توجيه الغاز للصناعات ذات القيمة المضافة العالية، مثل البتروكيماويات والألومنيوم، مع إمكانية تصدير الكهرباء لدول الجوار مثل ليبيا، وبالتالي تحقيق إيرادات مستدامة بالعملة الصعبة. وأشار إلى أن المفاعلات من الجيل الثالث المتطور، مع وجود أنظمة أمان متعددة، ووعاء انصهار قلب المفاعل، لضمان الاحتواء الكامل للوقود النووي ومنع أي تسرب إشعاعي.





