
ترى كل من القاهرة والخرطوم أن الفيضانات العارمة التي اجتاحت ست ولايات سودانية هذا الأسبوع، وأغرقت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية وتسببت في تشريد مئات الأسر، ليست مجرد كارثة طبيعية، بل نتيجة مباشرة لتصرفات أحادية من جانب إثيوبيا في إدارة سد النهضة، وبينما تؤكد السلطات السودانية أن توقيت تصريف المياه من السد ساهم في رفع مناسيب النيل إلى مستويات خطيرة، وتشدد مصر على أن غياب اتفاق قانوني ملزم يضمن حقوق دولتي المصب يعرض المنطقة لمخاطر متكررة، يجعل حياة الملايين رهينة قرارات منفردة من أديس أبابا.
فيضانات متزامنة مع تصريف السد
وزارة الزراعة والري السودانية أكدت، في بيان رسمي، اليوم الأربعاء، أن التغيرات المناخية أثرت بشكل مباشر على نمط الأمطار الموسمية، حيث تأخر موسم الخريف وامتد حتى نهاية أكتوبر، مشيرة إلى أن التساقط الكثيف للأمطار على الهضبة الإثيوبية المصدر الأساسي للنيل الأزرق ونهر عطبرة تجاوزت المعدل الطبيعي.
وأضاف البيان أن النيل الأبيض سجل زيادة في الإيراد تراوحت بين 60% و100% فوق المتوسط، تزامناً مع أعلى وارد عبر نهر عطبرة منذ سنوات، وأوضحت الوزارة أن هذه التطورات تزامنت مع اكتمال تخزين سد النهضة الإثيوبي وبدء تصريف المياه من بحيرته منذ 10 سبتمبر، حيث بلغ أقصى تصريف يومي 750 مليون متر مكعب.
شددت الوزارة على أن توقيت التصريف لعب دوراً محورياً في تغيير الأنماط الهيدرولوجية للنهر وارتفاع المناسيب، مما استدعى تشكيل غرفة طوارئ بإشراف وزير الري “عصمت قرشي”، وحشد فرق الرصد والإنذار المبكر على مدار الساعة.
خسائر وأضرار على الأرض
تجلت الآثار المباشرة للفيضانات في خسائر اقتصادية وزراعية ملموسة، إذ ذكرت تقارير محلية أن مزارعي ولاية نهر النيل اضطروا إلى بيع محاصيلهم على عجل خوفاً من تدميرها، وتثير هذه التطورات قلقاً متزايداً بشأن الأمن الغذائي ومعيشة الأسر الزراعية التي تعتمد على هذه المحاصيل كمصدر دخل رئيسي، وسط مخاوف من أن يؤدي استمرار الفيضانات إلى موجة نزوح داخلي ومزيد من الضغط على الاقتصاد المحلي.
وأعلن الدفاع المدني السوداني عن إجلاء أكثر من 500 أسرة من مدينة “ود مدني” شمال الخرطوم بعد اجتياح المياه لعدد من الأحياء، وأشار إلى أن مبادرات شبابية أقامت حواجز ترابية في محاولة لوقف تدفق المياه، لكنها بدت محدودة بسبب قلة الإمكانات.
وفي العاصمة، تفقد المدير التنفيذي لمحلية الخرطوم بالإنابة، “كمال عوض الكريم”، عدداً من المناطق الهشة على ضفتي النيلين الأبيض والأزرق، مؤكداً أن الوضع “مستقر حتى الآن” مع استمرار العمل عبر غرفة طوارئ الخريف.
القاهرة: “سد النهضة غير قانوني“
في مصر، جدد وزير الموارد المائية والري، الدكتور “هاني سويلم”، تحذيراته من مخاطر “الأعمال الأحادية” في منابع النيل، وقال في تصريحات متلفزة: “سد النهضة الإثيوبي غير قانوني وغير شرعي، وسيظل كذلك حتى التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم يضمن الحقوق المائية لمصر”.
وأكد أن القاهرة تمتلك “سيناريوهات جاهزة” للتعامل مع الأزمة، مشدداً على أن مصر “دولة ذات سيادة لا تعوّل على مواقف الأطراف الدولية”، وأن القوانين الدولية تمنحها الحق في اتخاذ إجراءات معينة إذا لزم الأمر.
وتؤكد السلطات المصرية أن أديس أبابا “افتقرت باستمرار إلى الإرادة السياسية للتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن تشغيل السد”، معتبرة أن ذلك يقوض حقوق مصر والسودان التاريخية في مياه النيل.
تحذيرات من “الفشل الفني“ لسد النهضة
المستشار الأسبق لوزير الري المصري، الدكتور “ضياء الدين القوصي”، قال لصحيفة “الشرق الأوسط” إن “إثيوبيا فشلت فنياً في إدارة وتشغيل السد”، محذراً من أن “سعة السد البالغة 74 مليار متر مكعب تفوق قدرته الإنشائية، ومع تعطل معظم التوربينات اضطرت أديس أبابا لتصريف المياه بشكل مفاجئ”.
بدوره، اعتبر الدكتور “دوميط كامل”، رئيس حزب البيئة العالمي، والخبير في قضايا تغير المناخ، في مقابلة مع قناة “القاهرة الإخبارية”، أن الفيضانات الأخيرة “ليست كارثة طبيعية بحتة، بل نتيجة مباشرة لأخطاء تقنية وإدارية في تشغيل السد منذ 2015″، وأوضح أن أربعة توربينات فقط تعمل من أصل 14، ما أجبر السلطات الإثيوبية على فتح البوابات دفعة واحدة.
أما أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، الدكتور “عباس شراقي”، فأكد لوكالة “أسوشيتد برس” أن ما يحدث “خطأ بشري”، قائلاً إن “إثيوبيا لم تُفرغ بحيرة السد تدريجياً خلال موسم الأمطار، كما أن تعطل التوربينات جعل المياه المخزنة تتدفق فجأة نحو السودان”.
الخرطوم: إنذار أحمر
وزارة الري والموارد المائية السودانية كانت قد أطلقت “إنذاراً أحمر” الأسبوع الماضي، محذّرة من فيضانات محتملة في خمس ولايات على امتداد النيل، بينها الخرطوم ونهر النيل وسنار، ودعت المواطنين إلى حماية ممتلكاتهم ومزارعهم، مع تأكيدها أن المناسيب بدأت بالانخفاض تدريجياً منذ الثلاثاء.
لكن تواصل الأمطار الغزيرة على الهضبة الإثيوبية، بحسب الوزارة، يبقي احتمالية ارتفاع جديد في المناسيب خلال أيام، الأمر الذي جعل السلطات تعلن حالة الطوارئ القصوى.
أديس أبابا: السد خفّف الفيضانات
في المقابل، أكدت إثيوبيا في وقت سابق أن سد النهضة أسهم في تقليل حدة الفيضانات، وخلال حفل الافتتاح الرسمي للسد في 9 سبتمبر، صرّح وزير المياه والطاقة الإثيوبي “هابتامو إيتيفا جيليتا” بأن “المشروع ساعد على خفض الفيضانات في السودان من خلال تخزين كميات ضخمة من مياه الأمطار”، غير أن هذه التصريحات بدت متعارضة مع الواقع الميداني في عدد من ولايات السودان التي تكابد فيضانات واسعة، ومع تحذيرات خبراء مصريين الذين ربطوا الأزمة بخلل في إدارة السد.
أزمة متفاقمة
تعود أزمة سد النهضة إلى عام 2011، حين بدأت إثيوبيا بناءه على النيل الأزرق، أحد الروافد الرئيسية لنهر النيل، ومنذ ذلك الحين، دخلت المفاوضات بين القاهرة والخرطوم وأديس أبابا في جولات متكررة لم تفضِ إلى اتفاق نهائي، وبينما تعتبره إثيوبيا مشروعاً سيادياً يهدف إلى التنمية وتوليد الطاقة، تتمسك مصر والسودان بضرورة التوصل إلى ترتيبات ملزمة قانونياً تضمن عدم الإضرار بحصصهما المائية.
وتأتي هذه التطورات بعد إعلان مصر في ديسمبر 2023 فشل آخر جولة من المفاوضات بشأن السد، وإغلاق المسار التفاوضي الممتد منذ 13 عاماً، ومع اكتمال ملء بحيرة السد رسمياً، تبدو أزمة “سد النهضة” أبعد من كونها ملفاً فنياً أو بيئياً، لتتحول إلى معضلة سياسية وأمنية تهدد استقرار الإقليم برمته.