بنوك وتامين

«المركزى» يرسم ملامح جديدة للحوكمة بقطاع المدفوعات الرقمية

مصر تتصدر خريطة التكنولوجيا المالية الإقليمية

يشهد الاقتصاد المصري في السنوات الأخيرة تحولًا جذريًا بفعل الطفرة الرقمية المتسارعة، خاصة في قطاع المدفوعات الإلكترونية، الذي أصبح ركيزة أساسية في تحقيق الشمول المالي وتقليل الاعتماد على النقد.

وفي هذا السياق، اتخذ البنك المركزي المصري خطوة فارقة بإصداره تعليمات جديدة تتعلق بالحوكمة والرقابة الداخلية، إلى جانب وضع معايير دقيقة للجدارة والصلاحية الفنية للمسؤولين الرئيسيين بمؤسسات الدفع.

هذه التعليمات لا تمثل مجرد تحديث تنظيمي، بل تعكس توجهًا استراتيجيًا نحو بناء إطار مؤسسي أكثر انضباطًا واستدامة، يتماشى مع قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي رقم 194 لسنة 2020، ويضع مصر في موقع أكثر تقدمًا على خريطة التكنولوجيا المالية الإقليمية.

ورغم التحديات المتوقعة، فإن العوائد ستكون كبيرة على مستوى ثقة العملاء والمستثمرين، ودعم الشمول المالي، وتعزيز مكانة مصر كلاعب إقليمي بارز في اقتصاد المدفوعات الرقمية، فهي خطوة استراتيجية جريئة، تثبت أن البنك المركزي لا يكتفي بمواكبة التطورات، بل يسعى لصناعة المستقبل عبر بناء بيئة مالية حديثة، آمنة، وموثوقة.

لم يعد التحول الرقمي خيارًا، بل أصبح واقعًا يفرض نفسه على المؤسسات المالية والاقتصاد ككل، فخدمات التكنولوجيا المالية في مصر تنمو بمعدلات تفوق 30% سنويًا، مدفوعة بانتشار الهواتف الذكية، وتوسع المحافظ الإلكترونية، وزيادة الاعتماد على منصات الدفع الرقمي.

لكن هذا النمو المتسارع يطرح في الوقت نفسه تحديات متعلقة بالحوكمة، وإدارة المخاطر، وحماية العملاء. ومن هنا جاء تدخل البنك المركزي عبر تعليمات تستهدف ضبط إيقاع القطاع ومنع أي اختلالات قد تنعكس على الثقة في النظام المالي.

ولعل أحد أبرز جوانب التعليمات الجديدة هو إعادة صياغة العلاقة بين مجالس الإدارة، والإدارة التنفيذية، وأصحاب المصلحة في مؤسسات الدفع. فقد حددت التعليمات بوضوح واجبات ومسؤوليات كل طرف، وألزمت بوضع ضوابط لانعقاد الاجتماعات وتشكيل اللجان المنبثقة عن مجلس الإدارة، بما يضمن فعالية القرارات ويقلل من تضارب المصالح.

هذا التنظيم لا يعزز فقط الشفافية، بل يخلق توازنًا صحيًا بين الرقابة وصنع القرار، بما يحافظ على استقرار المؤسسات، ويضمن أن تكون السياسات التنفيذية منبثقة من رؤية استراتيجية واعية.

ومن أهم النقاط التي شددت عليها التعليمات ضرورة وجود نظام رقابة داخلية فعّال، يشمل إدارات المراجعة الداخلية، والالتزام، والمخاطر. والأهم أن تكون هذه الإدارات مستقلة تمامًا عن الإدارة التنفيذية، مع تزويدها بالموارد البشرية والتقنية الكافية.

هذا التوجه يعكس إدراك البنك المركزي أن الرقابة الداخلية ليست إجراءً شكليًا، بل هي خط الدفاع الأول ضد المخاطر التشغيلية والمالية، ووسيلة استباقية لرصد أي خلل قبل تفاقمه. فوجود إدارات مراجعة ومخاطر مستقلة يعني أن المؤسسة قادرة على حماية نفسها ذاتيًا، بجانب الرقابة الرسمية من البنك المركزي.

وقال نور البدوي، رئيس شركة فيسليفت والخبير في الحوكمة والمراجعة الداخلية إن إلزام مؤسسات الدفع بإنشاء إدارات مراجعة ومخاطر مستقلة هو نقلة نوعية، تضع هذه المؤسسات على قدم المساواة مع أفضل الممارسات العالمية. فالرقابة الداخلية الفعّالة لا تحمي المؤسسة فقط، بل تعزز ثقة العملاء والمستثمرين في السوق ككل.

وأكد نور البدوي أن المؤسسات التي ترى هذه المتطلبات عبئًا تنظيميًا ستخسر كثيرًا، بينما تلك التي تعتبرها فرصة لإعادة هيكلة أنظمتها الداخلية ستكسب ثقة العملاء والمستثمرين معًا. فالتعليمات ليست مجرد التزام قانوني، بل أداة لتأسيس ثقافة جديدة.”

لم تقتصر التعليمات على البنية المؤسسية، بل وضعت معايير دقيقة للجدارة والصلاحية الفنية للمسؤولين الرئيسيين، تشمل الخبرة العملية، الكفاءة المهنية، النزاهة، السمعة الجيدة، وتجنب تضارب المصالح.

كما اشترطت الحصول على موافقة مسبقة من البنك المركزي قبل تعيين أي مسؤول رئيسي، ومنحت المؤسسات مهلة عام كامل لتوفيق أوضاعها، بحيث تنتهي فترة الامتثال في يونيو 2026.

هذه الخطوة تضمن أن من يتولى إدارة مؤسسات الدفع هم أشخاص على مستوى عالٍ من الكفاءة والمصداقية، وهو أمر ضروري في بيئة تتسم بالتغير السريع والمنافسة الشديدة.

وقال باهر عبد العزيز، الخبير الاقتصادي انن شروط الجدارة الفنية تمثل صمام أمان للقطاع، فاختيار قيادات مؤهلة وذات سمعة طيبة يعزز قدرة المؤسسات على مواجهة التحديات المستقبلية، ويمنع حدوث أزمات ناتجة عن ضعف الخبرة أو تضارب المصالح، ولا شك أن هذه التعليمات ستفرض تحديات عملية على مؤسسات الدفع، سواء من حيث إعادة تشكيل بعض مجالس الإدارة، أو إنشاء إدارات رقابية جديدة، أو جذب كوادر متخصصة في مجالات المراجعة والمخاطر.

وتابع لكن هذه التحديات يجب النظر إليها كاستثمار طويل الأجل، لأنها ستؤدي في النهاية إلى بناء مؤسسات أكثر صلابة وانضباطًا، فالامتثال لا يعني فقط الالتزام بالقانون، بل يفتح الباب أمام تطوير الثقافة المؤسسية، وتحقيق مستويات أعلى من الكفاءة والثقة.

لا يمكن فصل هذه التعليمات عن الأهداف الأوسع للبنك المركزي، والمتمثلة في تعزيز الشمول المالي وتقليل الاعتماد على النقد. فالمدفوعات الرقمية هي المدخل الرئيسي لإدماج شرائح جديدة من المجتمع في النظام المالي الرسمي، بما يدعم النمو الاقتصادي ويقلل من مخاطر الاقتصاد غير الرسمي.

وأشار الخبير المصرفي إلى إن منظومة المدفوعات ليست مجرد بنية تقنية، بل هي أداة لدعم الشمول المالي وتوسيع قاعدة الاقتصاد الرسمي، وبالتالي فإن حماية هذه المنظومة عبر الحوكمة الرشيدة هو استثمار مباشر في استقرار الاقتصاد الكلي.

ومن المتوقع أن تُحدث هذه التعليمات أثرًا مزدوجًا سواء داخليًا عبر تعزيز استقرار مؤسسات الدفع وبناء هياكل أكثر انضباطًا أو خارجيًا من خلال رفع جاذبية السوق المصري أمام المستثمرين الإقليميين والدوليين، حيث تبحث الصناديق العالمية دائمًا عن أسواق تتمتع بأطر رقابية واضحة، هذا ما يجعل القواعد الجديدة عاملًا مهمًا في تعزيز تنافسية مصر إقليميًا، وفتح المجال أمام استثمارات أكبر في قطاع التكنولوجيا المالية.
دائمًا عن أسواق تتمتع بأطر رقابية واضحة، هذا ما يجعل القواعد الجديدة عاملًا مهمًا في تعزيز تنافسية مصر إقليميًا، وفتح المجال أمام استثمارات أكبر في قطاع التكنولوجيا المالية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *