غير مصنف

صناعة الجرارات الزراعية المصرية: فرصة لتقليل الفجوة في الميكنة الزراعية

تتحرّك مصر بثبات لإحياء صناعة الجرارات الزراعية وتوطينها، مستندة إلى شراكات تصنيع مع علامات عالمية، وسياسات تصنيعية تستهدف تعميق المكوّن المحلي، وتوجّه تصديري يعوّل على أسواق إفريقيا التي تشهد طفرة في الميكنة، ففي مايو 2025 فعَّلت وزارة الدولة للإنتاج الحربي اتفاق التعاون مع “إم تي زي” البيلاروسية عبر مصنع حلوان لمحركات الديزل (مصنع 909 الحربي)، وتم توقيع عقد لتوريد وتشغيل جرارات “92SL” لصالح الشركة المصرية للتنمية الزراعية والريفية؛ وهو التطور الذي جاء بحضور ومتابعة من وزيري الإنتاج الحربي والزراعة، تأكيدًا لأولوية الملف داخل الحكومة.
ويراهن صانعو السياسات على أن توطين الجرارات جزء لا يتجزأ من استراتيجية تعميق الصناعة وزيادة الاعتماد على الإنتاج المحلي. وزير الدولة للإنتاج الحربي محمد صلاح الدين مصطفى شدّد في أكثر من مناسبة على: “رفع نسبة المكوّن المحلي لتعزيز تنافسية المنتج في السوق المصري والتصدير للخارج”، وهي تصريحات تتسق مع جولات متابعة دورية داخل المصانع للتأكد من الالتزام بالجداول الزمنية وحل أي معوقات إنتاجية بسرعة، وهذا الخطاب التصنيعي المتماسك يُهيّئ بيئة مواتية لاستثمارات المكوّنات وسلاسل القيمة المرتبطة بالمحركات وناقلات الحركة والهياكل المعدنية.
على صعيد الرؤية الزراعية، يضع وزير الزراعة واستصلاح الأراضي علاء فاروق ملف الميكنة في قلب خططه لزيادة الإنتاجية، إذ أكد مؤخرًا أن: “إدخال الميكنة الحديثة ساهم في مضاعفة إنتاج القمح”، مع الإشارة إلى توسّع فعلي في المساحة المزروعة يقارب 9.5 مليون فدان، مدعومًا بتطبيقات تقنية ومشروعات استصلاح جديدة في الدلتا الجديدة وسيناء، وهذه الرؤية تخلق طلبًا محليًا متناميًا على معدّات الخدمة والحصاد والجرارات بمختلف القدرات الحصانية، وتدفع المصنعين لتطوير طرازات مواءَمة لظروف التربة وأنماط الحيازة.
تاريخيًا، راكمت مصر خبرة معتبرة في تصنيع محركات الديزل والمعدّات عبر شركات الإنتاج الحربي، وهو ما يفسّر سهولة العودة السريعة إلى خطوط جرارات تجميعية ثم تصنيع أعمق مع نقل تكنولوجيا تدريجي، وتُظهر بيانات سابقة للبنك الدولي (عن سلسلة مؤشر الجرارات لكل 100 كم² من الأراضي القابلة للزراعة) أن مصر وصلت في 2007–2008 إلى قرابة 400 جرار لكل 100 كم² وقرابة 103 ألف جرار عام 2008، وهي أرقام تعكس قاعدة استخدام تاريخية واسعة يمكن البناء عليها، مع ضرورة تحديث الأسطول ورفع الكفاءة الطاقية وتقليل تكاليف الصيانة، ورغم توقف السلسلة الإحصائية بعد 2009، فإنها تظل مرجعًا مفيدًا لمستوى القاعدة التي انطلقت منها السوق المحلية.
إفريقيًا، تبدو نافذة التصدير واعدة، تقدّر تقارير الأسواق أن قيمة سوق الجرارات الزراعية في إفريقيا تتجه إلى نطاق 2.6 مليار دولار بحلول 2030 بمعدلات نمو سنوية بين 4% و6.5%، مدفوعة باتساع رقعة الميكنة ونماذج التمويل المبتكرة للمزارعين.
وفي الخلفية، توضح دراسات متخصصة وفيرة أن الفجوة الميكانيكية ما زالت كبيرة؛ إذ لا يزال نحو 80% من المساحة المزروعة في القارة يعتمد على العمل اليدوي، وقرابة 5% فقط على القدرة الميكانيكية، بينما يبلغ متوسط القدرة الحصانية في إفريقيا جنوب الصحراء نحو 0.27 حصان/هكتار مقابل أكثر من 5 أحصنة/هكتار في الدول المتقدمة، وهذا الخلل البنيوي يترجم إلى طلب حتمي على الجرارات ومعدات الخدمة، وهو ما تلتقطه الشركات المصرية كمجال نمو طبيعي للتوسع الإقليمي.
وتدعم البنية المؤسسية القارية هذا التوجّه؛ فـاتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA) تفتح سوقًا يضم أكثر من 1.3 مليار نسمة وناتجًا قوامه 3.4 تريليونات دولار وفق الاتحاد الإفريقي، ومع انضمام البنك المركزي المصري إلى منظومة الدفع والتسوية الإفريقية (PAPSS) في نوفمبر 2024 تتراجع كلفة المدفوعات العابرة للحدود وتعقيداتها، ما ييسر صفقات تصدير المعدات الثقيلة ويختصر دورة التحصيل، وهذه التطورات تتكامل مع دور “أفريكسم بنك” في تمويل التجارة وإطلاق آليات تسوية ودعم للتكيّف مع متطلبات “الأفسي أف تي إيه”.
محليًا، يخلق نشاط التصدير حافزًا مضاعفًا للإنتاج؛ فبيانات جهاز “جويك” الحكومي (GOEIC) تشير إلى أن إجمالي الصادرات المصرية في 2024 قفز إلى أكثر من 40.8 مليار دولار بزيادة 14% سنويًا، فيما ارتفع إجمالي التجارة مع دول الاتحاد الإفريقي إلى 9.8 مليارات دولار، منها 7.7 مليارات صادرات مصرية، ما يعكس اتساع القاعدة السوقية القارية لمنتجات مصرية متعددة من ضمنها السلع الرأسمالية، لذا فإن دخول الجرارات ضمن هذا الزخم يرفع القيمة المضافة للصادرات، ويعظّم الأثر التشابكي للصناعة المحلية في قطاعات المكوّنات والهندسة والخدمات الفنية.
عمليًا، يتطلب تثبيت أقدام الصناعة ثلاث ركائز: أولًا، إنتاج طرازات متدرجة القدرة من 50 حتى 120 حصانًا تُلبّي أنماط الحيازة الصغيرة والمتوسطة المنتشرة في مصر وشمال إفريقيا، مع حلول تمويل تشغيلي للمزارعين بالتعاون مع البنك الزراعي المصري وشركات التأجير التمويلي، وثانيًا، تعميق المكوّن المحلي في المحركات وأجزاء نقل الحركة والأنظمة الهيدروليكية عبر شراكات توريد إقليمية، وهو ما تؤكد عليه وزارة الإنتاج الحربي ضمن توجيهاتها لرفع نسب التعميق والالتزام بالمخططات الزمنية، وثالثًا، إنشاء مراكز خدمة وصيانة وتوريد قطع غيار على محاور التصدير إلى ليبيا والسودان ودول غرب إفريقيا لضمان استدامة التشغيل وتقليل فترات التعطل، وهي عناصر حاسمة لتنافسية العلامة “صنع في مصر” في سوق ما بعد البيع.
وتشير مرجعية الفاو، والاتحاد الإفريقي إلى أن رفع ميكنة الزراعة يحسّن إنتاجية العمل ويقلل فاقد الحصاد، ويُسرّع التحول إلى ممارسات زراعة ذكية مناخيًا، ومع توقيع عقود تشغيل وتسليمات فعلية لطرازات “MTZ-92SL” في مصر، والرسائل الحكومية المتكررة بشأن دعم التصدير وتعميق التصنيع، تبدو نافذة السنوات القليلة المقبلة مناسبة لتقليص فجوة الميكنة محليًا وبناء حضور تصديري في القارة، فإن النجاح هنا ليس خيارًا صناعيًا فحسب، بل ضرورة أمنٍ غذائيّ واقتصاديّ في آن واحد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *