
تسللت عبر الهواتف المحمولة تطبيقات تُظهر وجهًا لامعًا من الثراء السريع، لكنها تُخفي خلفها مصائد رقمية مميتة. تطبيقات ومواقع إلكترونية تعد بالأرباح السريعة والوظائف الرقمية والفرص الذهبية، لكنها سرعان ما تكشف عن وجهها الحقيقي كأدوات احتيال إلكتروني منظم، تتسبب في خسائر مالية جسيمة، بل وجرائم قتل وانتحار غير مسبوقة داخل المجتمع المصري.
تنطلق هذه التطبيقات عادة من خلال إعلانات على وسائل التواصل الاجتماعي، تتحدث بلهجة تحفيزية وتعرض صورًا لأشخاص “أصبحوا أثرياء” في أيام٬ حيث تدعو المستخدمين لتجربة “الربح من مشاهدة الإعلانات” أو “الاستثمار في العملات الرقمية”، وغالبًا ما يُمنح المستخدم في البداية أرباحًا رمزية وهمية، لإقناعه بمصداقية المنصة، لكن مع الوقت، ومع كل خطوة استثمار جديدة، يتسع الفخ إلى أن يُسحب البساط فجأة، ويختفي التطبيق أو يُغلق الحسابات، ويبدأ الكابوس.
ما قد يبدو مجرد عملية نصب مالي، له في الواقع أبعاد كارثية متعددة:
اقتصاديًا: استنزاف مدخرات آلاف المواطنين، خاصة من الطبقات المتوسطة والفقيرة.
اجتماعيًا: تفكك أسري، وموجات من الاكتئاب والانتحار نتيجة الشعور بالخداع أو الإفلاس.
أمنيًا: نمو بيئة رقمية غير آمنة، تُستغل من قبل شبكات دولية لغسيل الأموال، وتُصعّب على الأجهزة الأمنية تتبع الجناة بسبب استضافة السيرفرات خارج البلاد.
حوادث هزت الضمير المصري الربح الوهمي ينتهي بالدم
طالب يطعن سيدة ويحرق جثتها لسرقة المال.. قضية مأساوية شهدتها محافظة الشرقية مؤخرًا، سلطت الضوء بقوة على التداعيات الكارثية لهذه الألعاب، بعدما كشفت أجهزة وزارة الداخلية ملابسات جريمة قتل بشعة راحت ضحيتها سيدة داخل شقتها في منطقة كفر صقر، وتبين أن مرتكب الجريمة طالب يبلغ من العمر 17 عامًا، واعتاد ممارسة لعبة مراهنات إلكترونية منذ عدة أشهر عبر أحد التطبيقات على مواقع التواصل الاجتماعي، وبعد تعرضه لخسائر مالية متتالية، بدأ بسرقة أموال من والدته، التي يعمل زوجها في مجال المقاولات، لكن مع كشف أسرته لأمره وتشديد الرقابة عليه، قرر اللجوء إلى ارتكاب جريمة القتل بدافع السرقة لتوفير أموال يعاود بها الدخول إلى دوامة المراهنات.
وهناك أيضًا طفل يقتل جارته بسبب تطبيق مهام رقمي – مايو 2025.. حيث شهدت محافظة الجيزة واحدة من أبشع الجرائم الرقمية. طفل يبلغ من العمر 13 عامًا خنق جارته الصغيرة أثناء اللعب، معتقدًا أنه ينفذ “مهمة” من تطبيق ألعاب يطلب تنفيذ تحديات مقابل مكافآت افتراضية، والتحقيقات كشفت أن التطبيق يروج لمحتوى عنيف غير خاضع لأي رقابة، وأن الطفل تأثر نفسيًا بما شاهده داخله، دون أي توجيه أو متابعة أسرية.
وجريمة استثمار زائف في المنوفية 2024.. حيث قام شاب عشريني قتل صديقه بعد مشادة بينهما، بسبب تطبيق للاستثمار الإلكتروني كان الضحية هو من روج له، وخسر فيه الجاني مبلغًا كبيرًا من المال.
وعملية نصب جماعي في القاهرة 2023.. حيث تم خداع أكثر من 3000 مواطن من خلال تطبيق يدّعي الاستثمار في “التعدين الرقمي”، حيث جمع القائمون عليه ما يقرب من 50 مليون جنيه قبل أن يفرّوا إلى الخارج.
وأمام هذا المد المتصاعد من النصب الرقمي والاحتيال المقنن عبر تطبيقات ظاهرها الثراء وباطنها الفقر والانهيار، لم تقف الدولة المصرية مكتوفة الأيدي، بل بدأت في اتخاذ خطوات حاسمة لردع هذه الظاهرة الآخذة في التمدد.
فقد أصدر البنك المركزي المصري تحذيرات متكررة تدعو المواطنين لعدم التعامل مع أي تطبيقات مالية أو منصات استثمار غير خاضعة للرقابة أو مرخصة رسميًا، مؤكدًا أن التعامل معها يعرض أصحابها للخسارة وربما للمساءلة القانونية.
كما أطلق جهاز حماية المستهلك حملات توعية على مدار الشهور الماضية، داعيًا المواطنين إلى الإبلاغ عن أي ممارسات مشبوهة من خلال الخط الساخن 19588، مؤكدًا أن أي تهاون في الإبلاغ يسهم في اتساع رقعة الخطر.
وكثفت وزارة الداخلية من جهودها لملاحقة القائمين على هذه التطبيقات والمواقع، ونجحت بالفعل في تفكيك عدد من الشبكات الإجرامية التي كانت تمارس النصب الإلكتروني على نطاق واسع، بعضها يمتلك امتدادات خارج حدود الدولة.
وعلى الرغم من هذه الجهود الرسمية، تبقى المعركة ضد هذا النوع من الجريمة الرقمية معركة وعي قبل أن تكون معركة أمن. وهنا يأتي دور المجتمع – بدءًا من الأسرة – في ممارسة رقابة حقيقية على الأبناء، وتوجيههم إلى الاستخدام الآمن للتكنولوجيا، وتثقيفهم بخطورة الانجرار وراء الإغراءات الرقمية الزائفة.
ويرى خبراء أمنيون أن التعامل مع هذه القضية لا يجب أن يقتصر على البعد الأمني أو القانوني فقط، بل يجب أن يمتد إلى البعد التربوي والتوعوي، مع التركيز على تعزيز الوعي الرقمي لدى الشباب، وتطوير المناهج التعليمية لتشمل مفاهيم الأمن السيبراني، فضلًا عن دور الأسرة في المتابعة والتوجيه.
ويشير الواقع إلى أن المراهنات الإلكترونية لم تعد مجرد لعبة، بل هي قنبلة موقوتة تهدد المجتمع من الداخل، تتطلب تدخلًا فوريًا على كافة المستويات لكبح جماحها ومنع تحولها إلى ظاهرة عامة تنخر في جسد الأمن الاجتماعي والاقتصادي.
كما أن تطبيقات الربح السريع لم تعد فقط أدوات للنصب أو التحايل، بل أصبحت بوابة لدمار نفسي واجتماعي واقتصادي إذا ما تُركت دون رقابة أو مساءلة، ولأن هذه التطبيقات تتسلل من خلف الشاشات، متخفيةً بين ألعاب ترفيهية أو منصات مالية واعدة، فإن الحذر وحده لا يكفي، وما نحتاجه اليوم هو ثقافة رقمية جديدة، يتعلم فيها الكبير قبل الصغير كيف يميز بين الحقيقة والوهم، بين الاستثمار المشروع والفخ الرقمي٬ فالقانون يمكنه ملاحقة المجرمين، لكن الوعي هو السدّ الأول أمامهم، ولن ننجو من هذا الخطر المحدق إلا إذا أدركنا – كمجتمع بأكمله – أن ضغطة زر واحدة قد تكون بداية لسلسلة من الخسائر لا تُقدر بثمن.