
تصريحات ترامب حول سد النهضة، أعادت للأذهان جهود الإدارة الأمريكية خلال فترة رئاسته الأولى خاصة في 6 نوفمبر 2019، عندما أشرف على مباحثات بين الدول الثلاث داخل جدران البيت الأبيض.
كما أثارت تصريحات ترامب أثارت ردود متباينة، ففي حين أن البعض رأى فيها بوابة دبلوماسية جديدة، لكن اعتبرها البعض ورقة ضغط استراتيجية، تجمع بين الثناء الرسمي واستخدام القوّة الناعمة.
ومن جانبه، ثمّن الرئيس عبد الفتاح السيسي، في بيان رسمي، تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن أزمة سد النهضة، مؤكدًا أن مصر تُقدّر دعم واشنطن لجهود التوصل إلى حل عادل ومتوازن يحفظ حقوق جميع الأطراف في مياه نهر النيل، مشيرًا إلى أهمية الدور الأمريكي في تسوية النزاعات الإقليمية والدولية، بما في ذلك ملف السد الذي يمثل قضية مصيرية لشعب مصر.
وجاءت تصريحات الرئيس السيسي في أعقاب تصريحات أدلى بها الرئيس ترامب، أعرب فيها عن استعداده للعب دور فعّال في التوصل إلى اتفاق بشأن سد النهضة الإثيوبي، مؤكّدًا أن “المياه بالنسبة للمصريين مسألة حياة”، وأنه مستعد للتحرك سريعًا لإيجاد حل يُرضي جميع الأطراف، ويحفظ الأمن والاستقرار في المنطقة.
وكان ترامب قد صرّح خلال لقائه مع الأمين العام لحلف الناتو، بأن أزمة سد النهضة من الملفات التي يجب أن تُحل سريعًا، متسائلًا عن أسباب عدم حل القضية قبل بناء السد، ومشددًا على أن “حياة المصريين تعتمد على مياه النيل”، ما اعتبره مراقبون تحولًا مهمًا في تعاطي واشنطن مع هذا الملف الحيوي.
كما أعلن الرئيس الأمريكي أنه سيدفع باتجاه “حل سريع وعادل”، مؤكدًا أن مصر وإثيوبيا والسودان جميعًا شركاء مهمون، وينبغي التوصل إلى اتفاق يضمن التنمية دون المساس بالحقوق الأساسية لدول المصب.
خلفية الأزمة
تعود أزمة سد النهضة إلى عام 2011، حين بدأت إثيوبيا في بناء السد على النيل الأزرق دون اتفاق شامل مع دولتي المصب، مصر والسودان.
وتخشى القاهرة من أن يؤدي ملء وتشغيل السد بشكل أحادي إلى تقليص حصتها من المياه، التي تُعد شريان الحياة لأكثر من 100 مليون مصري.
ورغم عقد جولات متعددة من المفاوضات برعاية الاتحاد الإفريقي وأطراف دولية، إلا أن الجدل لا يزال قائمًا حول آلية ملء وتشغيل السد، وضمانات عدم الإضرار بالمصالح المائية لمصر والسودان.
البيت الأبيض كمنصة للحلّ: لقاء في نوفمبر 2019
في 6 نوفمبر 2019، تألّقت القاعة الخضراء في البيت الأبيض بمشهد تاريخي، حيث استضاف ترامب وزراء خارجية مصر، إثيوبيا، والسودان، وسط رعاية مباشرة من وزير الخزانة ستيفن منوتشين، بحضور رئيس البنك الدولي.
الاجتماع الثلاثي هدف إلى كسر الجمود الدبلوماسي حول سد النهضة، وتحديد إطار ملزم “للملء والتشغيل” تحت إشراف أمريكي–عالمي .
وعلق الرئيس عبد الفتاح السيسي لاحقًا بالإشادة بالجهود الأمريكية، ووصف المبادرة بأنها “آلية توافق تحفظ الحقوق وفق القانون الدولي”، هذا اللقاء، الذي تميّز بتظافر رؤى واشنطن وبنوك التمويل الدولي، بدا وكأنه انفتاح دبلوماسي معتبر للحلّ.
دعم ورسائل مشوّشة: من تحفيز إلى ضغط
في صيف 2020، انتقلت أزمة السدّ إلى مرحلة أكثر تصاعدًا، حيث أعلن ترامب تعليق جزء كبير من مساعدات التنمية لأديس أبابا- قدّرها مسؤولو الخارجية بـ130 مليون دولار، في محاولة للضغط على إثيوبيا للقبول بشروط ملء أباطئي تحت إشراف دولتي المصب .
ثم جاءت إشارات أقسى، حين كتب ترامب إلى رئيس الوزراء إثيوبيا أبي أحمد أن “مصر ربما تفجّر السد”، مؤكدًا أن “الوضع خطير ولا بد من فعل شيء”، حيث أثار تصريح “تفجير السد” غضب إثيوبيا، التي اعتبرته تهديدًا لسيادتها، وردّت بأن “إثيوبيا لن تنحني أمام أي عدوان”، وأن تصريحات ترامب “تنتهك القانون الدولي”.
استراتيجية المحسوبية المزدوجة؟
تحليلات مراقبين رجّحت أن ترامب اتبّع سياسة مزدوجة: من جهة، أظهر استعدادًا لوساطة حقيقية عبر اللقاء التاريخي في واشنطن؛ ومن جهة أخرى، استعان بغطاء مالي وأمني (التهديد بالويلات) لدفع إثيوبيا نحو تسوية تقارب مصالح مصر والسودان.
فيما رأى بعضهم أن القرار هدف لتعزيز العلاقات مع القاهرة ولتنشيط السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة .
فيما اعتبرت صحيفة واشنطن بوست، أن قطع مساعدات التنمية جاء “لتأجيج التوتر”، وتعزيز موقف القاهرة على حساب المنطق الدبلوماسي، موضحة أن “استراتيجية العقاب” فاقمت الموقف وأعطت إيحاء بتفضيل أمريكي لمصر أمام إثيوبيا .
هل كانت له أكثر من غاية؟
السياق الانتخابي لترامب لم يكن غائبًا: قبل انتخابات 2020، بدا واضحًا أن قدرًا كبيرًا من تحركات البيت الأبيض كان يُدار من وزارة الخزانة، كما لو أن السد كان ورقة في لعبة ضغط استراتيجيات إقليمية، تناسب رسائل سياسية داخلية لـ”قائد قوي يحمى الحلفاء”.
كما أن إثبات الدور كوسيط نافع كان يُطرح قبيل توقيع اتفاقيات تطبيع عربية (مثل التطبيع السوداني- الإسرائيلي)، ما منح واشنطن غطاء إعلاميًا إضافيًا:” ترامب يحلّ أزمة مائية في أفريقيا بعد أن أبرم صفقة سلام بين إسرائيل والسودان”.
جدّية أم استعراض؟
اللقاء الثلاثي في البيت الأبيض كان فعلًا دبلوماسيًا حقيقيًا، انفتاح رسمي يؤكد رغبة أمريكية بالتدخل وبالأدوات الدولية (بنك عالمي) .
قطع المساعدات يُعد ضربة ملموسة، لكنها أيضًا قنبلة ضغط؛ بعض الخبراء وصفوا أنه “أجّج النزاع” أكثر مما ساهم في تسويته .
التهديد بتدمير السد فُسّر كرسالة صارمة لإثيوبيا، أكثر منها وسيلة للتفاوض؛ أثار رد فعل حادًا في أديس أبابا ووصفتها “انتهاكًا لسيادتها” .
يمكن القول إن استضافة ترامب للقاء واشنطن جاءت بدافع جاد لجمع الأطراف الثلاثة، عبر منصة سياسية ودبلوماسية واضحة.
ومن جانبه، اعتبر الدكتور محمد مهران، أستاذ القانون الدولي والأمين العام للجنة الدولية للدفاع عن الموارد المائية، أن تصريحات ترامب الأخيرة أسقطت القناع عن الانتهاكات الإثيوبية في أزمة سد النهضة، مؤكدا أن تصريحات ترامب اعترافاً صريحاً لا يقبل التأويل بالنسبة الأضرار السد على مصر وخطورته على الأمن المائي.
وشدد على أن إثيوبيا انتهكت جميع القوانين الدولية ومواثيق الأمم المتحدة بشأن الحقوق المائية، لافتاً إلى أن ترامب كان شاهدا على كل هذه التجاوزات وخاصة بعد رعايته للمفاوضات بين الدول الثلاث في عام 2020.
أما الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية، اعتبر أن تصريحات ترامب تبرهن على حق مصر في حماية حقوقها في مياه النيل، وأن إثيوبيا تجاوزت جميع الخطوط، ولم تلتفت إلى أي مبادرة دولية أو إقليمية واعتمدت على المماطلة ونقض العهود.
وشدد على أن اعتراف الرئيس الأمريكي، يمنح مصر الضوء الأخضر الدولي في حماية حقوقها في مياه النيل بأي شكل من الأشكال، مطالباً المجتمع الدولي بالقيام بدوره تجاه مثل هذ الممارسات التي تعيق الأمن والسلام الإقليمي.