مصر

الاستعداد للتسونامي.. التغير المناخي أم النشاط البشري هو السبب؟

في زمنٍ يشهد فيه العالم تغيرات مناخية متسارعة، تقف مدينة الإسكندرية، عروس البحر الأبيض المتوسط، على حافة الخطر.

المدينة التي أسسها الإسكندر الأكبر قبل أكثر من 2300 عام، والتي لطالما كانت شاهدة على أمجاد التاريخ وملتقى للحضارات، تواجه اليوم تهديدًا وجوديًا يتمثل في خطر الغرق والانهيار تحت وطأة ارتفاع منسوب البحر، التآكل الساحلي، والعواصف المتزايدة القوة.

الاستعداد للتسونامي

في خطوة لافتة، أعلنت منظمة اليونسكو انضمام مدينة الإسكندرية كأول مدينة إفريقية إلى برنامج “الاستعداد للتسونامي”، وهو برنامج دولي تطوعي يهدف إلى تعزيز جاهزية المناطق الساحلية لمواجهة موجات المد البحري. هذا الانضمام يتطلب من المدينة تطوير خطة طوارئ فعالة، وتدريب السكان على الاستجابة السريعة، وتفعيل أنظمة الإنذار المبكر.

وتأتي هذه الخطوة بعد أن شهدت بعض الشواطئ المصرية في الصيف الماضي انحسارًا مفاجئًا في المياه، ما أثار مخاوف من احتمال وقوع تسونامي. رغم نفي السلطات لاحتمال وقوع كارثة، فإن الحادثة ألقت الضوء على هشاشة السواحل المصرية أمام الظواهر البيئية المفاجئة.

اللجنة الدولية الحكومية لعلوم المحيطات التابعة لليونسكو كانت قد حذّرت العام الماضي من احتمال وقوع تسونامي بارتفاع يزيد على متر في البحر الأبيض المتوسط خلال الثلاثين عامًا المقبلة، مع احتمال أن يشمل التأثير سواحل مصر، بما في ذلك الإسكندرية.

دراسة حديثة لجامعة نانيانغ التكنولوجية في سنغافورة كشفت أن هبوط الأرض في 48 مدينة ساحلية حول العالم يعزى بشكل كبير إلى تغير المناخ وما يسمى بـ”غرق الأرض”. ويشير التقرير إلى أن استخراج المياه الجوفية يعتبر عاملًا رئيسيًا في تفاقم هذه الظاهرة، بالإضافة إلى تأثير الأنشطة البشرية الأخرى مثل البناء والتعدين.

تشير الباحثة الرئيسية في الدراسة، شيريل تاي، إلى أن “الكثير من المدن التي غرقت تقع في آسيا أو جنوب شرق آسيا”، مرجحةً أن ذلك يعود إلى الارتفاع الكبير في الطلب على المياه في تلك المناطق، نتيجة للنمو السكاني السريع والتطور العمراني. هذا الارتفاع في الطلب يؤدي إلى زيادة معدلات استخراج المياه الجوفية، مما يفاقم الوضع ويزيد من وتيرة الفيضانات وكثافتها وطولها في المستقبل. كما تحذر تاي من خطر تسرب المياه المالحة، الذي قد يؤثر على الأراضي الزراعية وجودة مياه الشرب.

إلى جانب الأنشطة البشرية، يمكن للعوامل الطبيعية مثل التحولات التكتونية والزلازل والتماسك الطبيعي للتربة أن تلعب دورًا في هبوط الأرض. ومع ذلك، يعتقد بعض الخبراء أن تأثير العوامل الطبيعية أقل بكثير من تأثير الأنشطة البشرية. وتؤكد الباحثة تاي أن المخاطر تكون حادة بشكل خاص في العديد من المدن الساحلية التي تقع في مناطق الدلتا المنخفضة، حيث تتفرع الأنهار قبل وصولها إلى البحر. وتشمل هذه المدن جاكرتا، بانكوك، مدينة هو تشي، وشنغهاي.

عندما واجهت طوكيو مشكلة هبوط أجزاء من مدينتها، اتخذت نهجًا مختلفًا لمعالجة جذور المشكلة. تباطأ هبوط الأرض بشكل ملحوظ في سبعينيات القرن الماضي بعد أن فرضت طوكيو لوائح صارمة على استخراج المياه الجوفية. كما أنشأت نظامًا فعالًا لإدارة إمدادات المياه، يعتبره العلماء الطريقة الأكثر فعالية لوقف هبوط الأرض. ووجدت دراسة لجامعة تايوان أن المدينة أصبحت أكثر استقرارًا، على الرغم من انخفاض منسوب المياه في بعض المناطق الصغيرة بمعدل يتراوح بين 0.01 و2.4 سم سنويًا بين عامي 2014 و2020.

وفقًا لدراسة جامعة نانيانغ، غرقت أجزاء من مدينة الإسكندرية بمعدل يتراوح بين 0.01 سم و2.7 سم سنويًا بين عامي 2014 و2020. ويعتقد الخبراء أن ارتفاع مستويات استخراج المياه الجوفية واستصلاح الأراضي قد ساهما في هبوط الأراضي عن مستوى سطح البحر على مدى عقود، مما ينذر بخطر حدوث فيضانات أشد في المستقبل.

سيناريوهات البقاء والمواجهة

الوزيرة المصرية للبيئة، الدكتورة ياسمين فؤاد، أوضحت في تصريحاتها أن هناك سيناريوهين متباينين لمستقبل الإسكندرية ودلتا النيل في ظل التغيرات المناخية. السيناريو المتشائم يتنبأ بغرق كامل للإسكندرية والدلتا بحلول عام 2100، بينما يشير السيناريو المتفائل إلى تعرض مناطق محددة فقط لأضرار جسيمة.

وأكدت الوزيرة أن الحكومة لا تتعامل مع هذه التهديدات باستخفاف، بل تتحرك من خلال استراتيجية شاملة تشمل مشاريع لحماية السواحل، وتطوير أنظمة إنذار مبكر، وبناء مدن جديدة في الصحراء لتخفيف الضغط السكاني عن الدلتا، التي تضم 80-90% من سكان مصر.

كما كشفت عن خريطة تفاعلية أطلقتها مصر لمتابعة تأثير التغير المناخي حتى عام 2100، مؤكدة أن الدولة أتمّت حماية 60% من أصل 69 كيلومترًا من السواحل المتأثرة، وتسعى لاستكمال المشروع ضمن استراتيجية وطنية أوسع.

دراسة حديثة نشرتها جريدة “ديلي ميل” البريطانية، سبق أن حذّرت من مصير قاتم للإسكندرية في حال استمرار ارتفاع درجات الحرارة، حيث توقعت غرق المدينة نتيجة ارتفاع منسوب البحر، بالتزامن مع تآكل الشواطئ وتآكل البنية التحتية.

المهندسة المعمارية سارة فؤاد، المؤلفة الرئيسية للدراسة من الجامعة التقنية في ميونيخ، أوضحت أن عدد المباني المنهارة في الإسكندرية ارتفع من حالة واحدة سنويًا إلى أكثر من 40 حالة سنويًا خلال العقد الماضي فقط. وقالت: “البحار المرتفعة والعواصف الشديدة تُسرّع التدهور الذي استغرق آلاف السنين من الإبداع البشري لبنائه”.

الدراسة التي شارك فيها أيضًا الدكتور عصام حجي، عالم المياه المصري بجامعة جنوب كاليفورنيا، أكدت أن البحر يتوغل بسرعة نحو المدينة، محذرًا بقوله: “ما بدا ذات يوم وكأنه مخاطر مناخية بعيدة، أصبح الآن حقيقة واقعة”.

الدراسة استخدمت صور الأقمار الصناعية والخرائط التاريخية لرصد مدى تراجع الساحل منذ القرن التاسع عشر، وكشفت أن بعض المناطق شهدت تراجعًا بمعدل 3.6 أمتار سنويًا.

في مقابل التحذيرات الدولية، أكد عدد من العلماء المصريين أن التهديد حقيقي لكنه لا يعني بالضرورة اختفاءً وشيكًا للمدينة.

الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا بجامعة القاهرة، أشار إلى أن الحديث عن غرق الإسكندرية بشكل كامل لا يعبّر عن واقع قريب، موضحًا أن المشكلة تتعلق بالمناطق المنخفضة مثل بحيرة المنزلة ودمياط وبورسعيد.

وقال شراقي: “نحن الآن نعيش في فترة بين جليديتين، والانحسار والامتداد البحري جزء طبيعي من هذه المرحلة، وإن كانت تدخلات الإنسان في الصناعة واستخدام الفحم قد فاقمت الأمر”.

من جانبه، صرّح الدكتور صابر عثمان، المتسق الأسبق لاتفاقية التغير المناخي بالأمم المتحدة، بأن تأثيرات الاحتباس الحراري لا تعني زوال المدينة كليًا، بل تهدد أجزاء منها. وأوضح: “مصر لجأت إلى استخدام بلوكات أسمنتية و”ألسنة” بحرية لحماية الشواطئ، وهي إجراءات فعالة لكنها بحاجة للتطوير المستمر”.

دلتا النيل.. في مهب الريح

ليست الإسكندرية وحدها المعرضة للخطر، بل إن دلتا النيل، شريان الزراعة في مصر، تواجه تهديدًا مماثلًا. تقارير لجنة الأمم المتحدة لتغير المناخ أشارت إلى أن ارتفاع منسوب البحر الأبيض المتوسط قد يتراوح بين 25 و98 سم بحلول عام 2100، وهو ما يهدد بغرق ثلث أراضي الدلتا.

كما حذرت دراسة أمريكية سابقة صادرة عن المكتب الإقليمي لعلوم الفضاء عام 2021 من أن الدلتا قد تخسر نصف مساحتها في هذا القرن، وهو ما يعني تهديدًا مباشرًا للأمن الغذائي في البلاد.

في الوقت الذي تنقسم فيه الآراء بين التحذير والتطمين، تبقى الحقيقة أن مدينة الإسكندرية تواجه واحدة من أعقد التحديات المناخية في المنطقة. ومع أن البعض يعتبر الحديث عن اختفاء المدينة مبالغة، إلا أن الواقع البيئي المتغير لا يمكن إنكاره.

تاريخ المدينة البحري، وجغرافيتها الساحلية، وكثافتها السكانية، كلها عوامل تجعلها من أكثر المدن عرضة للتأثر بالتغيرات المناخية. ومع أن جهود الدولة، كما تؤكد وزيرة البيئة، تسير بخطى حثيثة في مجالات الحماية الساحلية، والمدن البديلة، والتكنولوجيا البيئية، فإن الحفاظ على الإسكندرية يتطلب كذلك دعمًا دوليًا وتمويلًا طويل الأمد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *