
تاريخ المواجهات من التثبيت إلى التعويم ..
تقلبات العملة الخضراء تغير قواعد اللعبة الاقتصادية وسط الأزمات العالمية
على مدار العقد الماضي، لم يكن سعر صرف الدولار في مصر مجرد رقم يتغير على شاشات البنوك، بل كان مرآة تعكس تعقيدات الاقتصاد، وأداة تكشف عمق التحديات التي تواجه الدولة في سعيها نحو الاستقرار والنمو. فمنذ عام 2015 وحتى بداية الربع الثاني من عام 2025، خاض الجنيه المصري معركة شرسة ضد تقلبات العملة الخضراء، شهد خلالها المواطن المصري موجات تضخم متتالية، وتبدلت فيها قواعد اللعبة الاقتصادية.
في هذا التقرير، نرصد رحلة الدولار في مصر خلال العشر سنوات الأخيرة، من مرحلة ما قبل التعويم، مرورًا بقرارات مصيرية كان أبرزها تحرير سعر الصرف في 2016، إلى تداعيات جائحة كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، وأخيرًا الارتفاع القياسي لسعر الدولار في أوائل 2025 إلى ما فوق 51 جنيهاً، قبل أن يتراجع إلى 50.81 جنيهًا بنهاية أبريل، بحسب بيانات البنك المركزي المصري.
مشكلات السوق السوداء ما قبل التعويم
في عام 2015، كان الاقتصاد المصري تحت ضغط متزايد نتيجة نقص العملة الأجنبية وتراجع الاحتياطي النقدي. كانت الدولة تعتمد حينها على نظام سعر صرف شبه ثابت، يحدد فيه البنك المركزي سعر الدولار الرسمي، في حين نشأت سوق موازية (سوق سوداء) نتيجة اتساع الفجوة بين العرض والطلب.
كان الدولار يُتداول رسميًا عند مستوى 7.8 جنيهًا، بينما تجاوز في السوق السوداء حاجز 9 جنيهات، وأحيانًا أكثر، ما أدى إلى اضطراب كبير في بيئة الأعمال، خاصة للشركات المستوردة التي لم تكن قادرة على الحصول على العملة الصعبة بالسعر الرسمي.
انخفضت إيرادات السياحة عقب سقوط الطائرة الروسية في شرم الشيخ في أواخر 2015، ما زاد من أزمة الدولار، في الوقت الذي كانت فيه تحويلات العاملين في الخارج تواجه صعوبات في الدخول عبر القنوات الرسمية، وارتفعت عمليات التحويل عبر السوق السوداء.
قرار التحرير نقطة تحول جذرية في نوفمبر 2016
في الثالث من نوفمبر 2016، اتخذ البنك المركزي المصري قرارًا تاريخيًا بتحرير سعر صرف الجنيه بشكل كامل، وهو ما عُرف بـ”قرار التعويم”، وذلك ضمن اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار. الهدف المعلن كان استعادة الثقة في الاقتصاد المصري، جذب الاستثمارات الأجنبية، والقضاء على السوق السوداء.
قفز سعر الدولار من نحو 8.88 جنيهات إلى ما يقرب من 18 جنيهًا خلال أسابيع، لتبدأ مرحلة جديدة من التسعير الحر. وعلى الرغم من صدمة المواطنين وارتفاع الأسعار بشكل حاد، إلا أن القرار مكّن الدولة من استعادة قدر من السيطرة على السوق النقدية، كما ارتفعت احتياطيات النقد الأجنبي تدريجيًا.
لكن بحسب د. محمد غالي، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، فإن “قرار التعويم رغم ضرورته، لم يُواكب بإصلاحات إنتاجية كافية، ما جعل الاقتصاد هشًا أمام أي صدمات خارجية لاحقًا”.
من 2017 إلى 2020.. استقرار نسبي تحت مظلة الإصلاح ثم صدمة الجائحة
بعد تحرير سعر الصرف في أواخر 2016، بدأت مصر رحلة جديدة في سياساتها النقدية والاقتصادية، مدعومة باتفاقها مع صندوق النقد الدولي، والذي نصّ على برنامج إصلاح اقتصادي شامل، شمل رفع الدعم تدريجيًا، وتحرير أسعار الوقود، وتطبيق ضريبة القيمة المضافة.
شهدت الفترة بين 2017 و2019 تحسنًا ملحوظًا في مؤشرات الاقتصاد الكلي، وبدأ سعر صرف الدولار يتراجع تدريجيًا من أعلى مستوياته، حتى وصل في بعض الفترات إلى نحو 15.6 جنيهًا في أوائل 2020. كما ارتفع الاحتياطي النقدي الأجنبي لدى البنك المركزي إلى مستويات قياسية قاربت 45 مليار دولار، وتزايدت التدفقات الاستثمارية في أدوات الدين الحكومية بفعل سياسة الفائدة المرتفعة.
ويوضح أسلم عصام، الخبير الاقتصادي، أن “تلك الفترة شهدت تحسناً في مؤشرات الاستقرار، ولكن هذا التحسن كان هشاً إلى حد ما، لأنه كان مدفوعاً في جزء كبير منه بتدفقات ساخنة في أدوات الدين، وليس استثمارات مباشرة أو نمو حقيقي في التصدير”.
مارس 2020.. العالم يتوقف والدولار يعود للارتفاع
في مارس 2020، اجتاحت جائحة كورونا العالم، وتوقفت حركة الاقتصاد الدولي بشكل غير مسبوق، لتبدأ مصر مرحلة جديدة من التحدي. تباطأ النشاط الاقتصادي العالمي، وتراجعت حركة التجارة، وتقلصت مصادر النقد الأجنبي الرئيسية، مثل السياحة، وقناة السويس، وتحويلات المصريين بالخارج، وهو ما أدى إلى ضغط كبير على الجنيه المصري.
وارتفع الدولار من 15.6 إلى ما فوق 16.2 جنيهًا خلال الأشهر الأولى من الجائحة، كما انخفض الاحتياطي النقدي لأول مرة منذ سنوات بنحو 5.4 مليار دولار خلال مارس وأبريل 2020، نتيجة سحب المستثمرين الأجانب أموالهم من أدوات الدين بسبب حالة الذعر العالمية.
غير أن استجابة البنك المركزي المصري كانت سريعة وفعّالة، من خلال خفض أسعار الفائدة تدريجيًا، وتوفير سيولة للبنوك، وتنفيذ حزم تمويلية للقطاع الخاص والصناعي. كما دعمت الحكومة موازناتها عبر اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي في يونيو 2020 بقيمة 5.2 مليار دولار، ساعد على تهدئة الأسواق وتوفير سيولة نقدية عاجلة.
التعافي الاقتصادي وسط ضغوط التضخم
مع بداية عام 2021، بدأت مؤشرات التعافي تظهر تدريجيًا على الاقتصاد المصري، خاصة مع عودة السياحة وتحسن أسعار البترول عالميًا. لكن هذا التعافي لم يكن كاملاً، إذ بدأت ملامح التضخم العالمي تظهر، خاصة بعد خطط التحفيز المالي الضخمة التي تبنتها الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، يوضح باهر عبد العزيز أن “الفترة بين 2021 و2022 كانت دقيقة للغاية، حيث نجح البنك المركزي في الحفاظ على استقرار سعر الصرف نسبياً، لكن كان هناك خطر متصاعد بسبب التضخم المستورد، وارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة، وهي عوامل تؤثر بقوة على اقتصاد هش مثل الاقتصاد المصري”.
الديون الخارجية والضغط على العملة
خلال تلك الفترة، ارتفع الدين الخارجي لمصر بشكل ملحوظ ليصل إلى أكثر من 145 مليار دولار بنهاية 2021، ما شكل ضغطًا إضافيًا على الجنيه المصري، خاصة مع تزايد التزامات خدمة الدين. كما واجهت الدولة صعوبة في جذب استثمارات أجنبية مباشرة مستدامة، وهو ما عزز الاعتماد على أدوات الدين قصيرة الأجل.
بحلول نهاية 2021، بدأت البوادر الأولى لتوتر جديد في سعر الصرف، خاصة مع بدء مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الحديث عن رفع أسعار الفائدة، وهو ما شكّل تهديدًا لدول الأسواق الناشئة، وبينها مصر، بسبب احتمال خروج الأموال الساخنة.
2022 – 2023 الجنيه في مهب العواصف العالمية
في مطلع عام 2022، دخل الاقتصاد المصري مرحلة أكثر حساسية، إذ بدأت التأثيرات الفعلية لرفع أسعار الفائدة الأمريكية في الظهور، ما تسبّب في خروج جزء كبير من استثمارات الأجانب في أدوات الدين، وتفاقمت الأزمة مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير من نفس العام.
جاءت الحرب في وقت دقيق للغاية بالنسبة للاقتصاد المصري، الذي يعتمد بشكل كبير على واردات الحبوب من روسيا وأوكرانيا، فضلًا عن تأثير الحرب على أسعار الطاقة والغذاء عالميًا. فارتفعت فاتورة الواردات الغذائية والبترولية بشكل كبير، وبدأ الضغط يتصاعد على الجنيه المصري.
سلسلة تخفيضات تدريجية للجنيه
استجابةً للتحديات المتزايدة، بدأ البنك المركزي المصري في مارس 2022 أولى خطوات خفض قيمة الجنيه بشكل تدريجي، حيث تم تعديل سعر الدولار من 15.7 جنيهًا إلى أكثر من 18 جنيهًا. وفي أكتوبر من نفس العام، تبع ذلك خفض آخر أوصل الدولار إلى ما فوق 22 جنيهًا، ثم جاء خفض ثالث في يناير 2023، تجاوز خلاله سعر الدولار 30 جنيهًا.
ورغم القلق الشعبي والضغوط الاقتصادية، أشاد عدد من الخبراء المحليين والدوليين بحرص البنك المركزي على اتباع سياسة تدريجية محسوبة لتخفيف الصدمة، بدلًا من التعويم المفاجئ. ويوضح باهر عبد العزيز: “رغم حدة الظروف، تعامل البنك المركزي بحرفية عالية، حيث قدّم إجراءات استباقية لمنع هروب رؤوس الأموال، ونجح في الحفاظ على الحد الأدنى من استقرار السوق”.
حزمة إصلاحات الحكومة ومبادرات حماية اجتماعية
بالتوازي مع الإجراءات النقدية، كثّفت الحكومة جهودها للتعامل مع آثار الأزمة، فأطلقت عدة حزم للحماية الاجتماعية، شملت رفع قيمة الدعم النقدي لبرامج “تكافل وكرامة”، وزيادة الحد الأدنى للأجور، إلى جانب إطلاق مبادرات لتوفير السلع الأساسية بأسعار مخفضة من خلال معارض “أهلاً رمضان” و”كلنا واحد”.
كما سعت الحكومة إلى تحفيز الصادرات، وتوفير العملة الصعبة عبر إجراءات لتشجيع تحويلات المصريين في الخارج، والحد من الواردات غير الضرورية، في محاولة لتقليص عجز الحساب الجاري.
ووفق أسلم عصام، فإن “دور الحكومة في تلك المرحلة كان محورياً، خاصة في الحفاظ على التماسك الاجتماعي والاقتصادي، رغم تصاعد الضغوط العالمية، فقد قدّمت نموذجاً في إدارة الأزمات المتزامنة”.
اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي وإصلاحات هيكلية مطلوبة
في ديسمبر 2022، وقّعت مصر اتفاقاً جديداً مع صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليارات دولار، في إطار “برنامج الإصلاح الهيكلي المرن”، والذي ركز على تقليص دور الدولة في الاقتصاد، وتمكين القطاع الخاص، وتحسين مناخ الاستثمار.
ومع دخول عام 2023، بدأت الحكومة المصرية تنفيذ عدد من هذه الإصلاحات، منها طرح شركات مملوكة للدولة في البورصة، وتحرير أسعار بعض الخدمات تدريجيًا. كما أظهرت الدولة مرونة في التعامل مع سعر الصرف، حيث تم التمهيد لانتقال نحو نظام سعر صرف أكثر مرونة وتلقائية.
أداء ملحوظ للبنك المركزي في إدارة احتياطي النقد
رغم كل التحديات، نجح البنك المركزي في الحفاظ على مستوى احتياطي النقد الأجنبي عند حدود مستقرة، حيث ظل يتراوح بين 34 و35 مليار دولار، مع التزامه بتوفير الاعتمادات المستندية للسلع الاستراتيجية والأدوية، ما ساعد على تقليل نسب النقص.
ويقول الدكتور محمد غالي إن “الاحترافية التي أظهرها المركزي في التعامل مع السوق، خصوصاً في التنسيق مع الحكومة والقطاع المصرفي، ساعدت في تهدئة المخاوف، وامتصاص أثر الانهيار السريع للجنيه”.
2024 – 2025 ذروة التحدي وبوادر انفراجة
مع بداية عام 2024، كانت مصر قد دخلت مرحلة دقيقة من إعادة التوازن، وسط تحديات عالمية متزايدة، أبرزها استمرار التوتر في سلاسل الإمداد، وتذبذب أسعار السلع الاستراتيجية عالميًا، إلى جانب تبعات الأوضاع الجيوسياسية في الشرق الأوسط وأوروبا. هذه الظروف أعادت الضغط على العملات المحلية في العديد من الأسواق الناشئة، وبينها الجنيه المصري.
كسر حاجز الـ50 جنيهاً.. لحظة حرجة في سوق الصرف
في الربع الأول من 2025، شهد سعر صرف الدولار موجة ارتفاع حادة، حتى كسر حاجز الـ51 جنيهاً، ليسجل مستويات غير مسبوقة في السوق المصرية، وسط حالة من القلق في الأوساط الاقتصادية والشعبية. بلغ الدولار ذروته عند 51.76 جنيهاً في بعض البنوك، ما أعاد إلى الأذهان سيناريوهات الاضطراب المالي لعام 2016.
غير أن البنك المركزي المصري، بالتنسيق مع وزارة المالية، تحرك سريعًا لضبط السوق من خلال تدخلات غير مباشرة، وتعزيز سيولة الدولار داخل النظام المصرفي. وتم ذلك عبر تسهيلات جديدة لجذب تدفقات دولارية من الخارج، سواء من خلال أدوات الدين أو طرح أصول استثمارية ضمن خطة الدولة لتوسيع الشراكة مع القطاع الخاص والمستثمرين الأجانب.
انخفاض مفاجئ يحقق ارتياح نسبي وثقة متزايدة
في نهاية أبريل 2025، أعلنت البنوك المصرية تراجع سعر الدولار إلى 50.81 جنيهاً، في مؤشر على بداية مرحلة جديدة من التعافي النسبي. هذا التراجع جاء بعد تراجع نسبي في التوترات التجارية العالمية، وعودة تدفقات استثمارية، وتزايد تحويلات المصريين بالخارج عبر القنوات الرسمية.
ويشير باهر عبد العزيز إلى أن “التحسن الأخير ليس صدفة، بل نتيجة مزيج من السياسات المرنة، والمصداقية التي نجح المركزي والحكومة في بنائها خلال السنوات الماضية. الأهم هو الاستمرار في الإصلاحات، وتحسين مناخ الاستثمار والإنتاج المحلي”.
هل انتهت أزمة الدولار؟
يرى أسلم عصام أن “المعركة الأهم الآن هي على جبهة الثقة – ثقة المستثمر، وثقة المواطن. الجنيه لا يمكنه أن يصمد على المدى الطويل إلا بإصلاح هيكلي حقيقي في بنية الاقتصاد: زيادة الإنتاج، تقليل الاعتماد على الاستيراد، ودعم الصادرات المصرية غير التقليدية”.
أما الدكتور محمد غالي، فيؤكد أن “الدولار سيظل عملة ضاغطة على اقتصاد مثل الاقتصاد المصري في ظل التبعية الهيكلية له، لكن المهم هو أن الدولة بدأت فعلياً في تنويع مصادر التمويل، والانفتاح على أدوات تمويل إسلامي، وتمويل تنموي منخفض التكلفة، وهذا سيمنح الاقتصاد مزيداً من المرونة مستقبلاً”.
ومع تحسن المؤشرات الأولية لسعر الصرف، وزيادة التوقعات بانخفاض التضخم تدريجياً في النصف الثاني من 2025، هناك تفاؤل حذر بأن مصر قد تجاوزت الأسوأ. غير أن المسار لا يزال طويلاً، ويتطلب التزامًا صارمًا من الدولة والمجتمع بالتحول نحو اقتصاد إنتاجي مستدام.
البنك المركزي، الذي قاد واحدة من أعقد المعارك النقدية في تاريخ مصر الحديث، يُنظر إليه اليوم على أنه صمام أمان رئيسي في الاقتصاد، جنباً إلى جنب مع الحكومة التي أظهرت مرونة وواقعية في التعامل مع الأزمات.
رحلة الدولار في مصر خلال العقد الأخير هي تجسيد حي لمعركة الاقتصاد من أجل البقاء في عالم مضطرب. من تحرير السعر، إلى سلسلة الصدمات، إلى إدارة الأزمة والتعافي التدريجي، أثبتت التجربة المصرية أن التحديات مهما بلغت، يمكن تجاوزها بسياسات متوازنة، وإرادة سياسية، وتعاون مؤسسي.