
في عالم يتحرك بسرعة الضوء، لم يعد الإنترنت مجرد وسيلة ترفيه أو تواصل، بل صار العصب الذي يربط الاقتصاد العالمي، والمجتمعات، والحكومات، وحتى الحياة اليومية.
ومع ذلك أثبت العقد الأخير أن هذا العصب يمكن أن يُصاب بالشلل في لحظة واحدة، وأن العالم المتصل أكثر هشاشة مما نتصور. وعلى امتداد هذا العقد المليء بالاضطرابات، تتكرر الخلاصة نفسها، أن الإنترنت الذي يوحّد العالم يمكن أن يشله خطأ واحد، والاعتماد على مزود أو مسار واحد هو مخاطرة تشبه وضع كل البنوك في مبنى واحد ينتظر أول شرارة. سواء كان السبب خللًا برمجيًا، أو حريقًا، أو تلف كابل تحت البحر، تبقى النتيجة واحدة: انقطاع يوقف الحياة ويكشف هشاشة النظام الذي بُني عليه العالم الحديث.
فمن أعطال السحابة في فيرجينيا، إلى حريق سنترال رمسيس في القاهرة، مرورًا بقطع الكابلات البحرية في البحر الأحمر والبلطيق، بدت شبكة الإنترنت العالمية وكأنها جسدٌ ضخم ينبض بخطر دائم إذا تعطلت خلية واحدة، يختل توازن البقية.
في 20 أكتوبر 2025 عاش العالم لحظة شلل رقمي حين انهارت خدمات Amazon Web Services AWS فجأة في خلال دقائق معدودة، توقفت آلاف المواقع والتطبيقات في القارات الخمس، من “سناب شات” إلى “فورتنايت”، ومن الخدمات البنكية إلى الأنظمة التعليمية.
حيث أعلنت الشركة، أن هناك خللاً في نظام ترجمة أسماء النطاقات (DNS) في مركز بياناتها بفيرجينيا، لكن أثرها كان عالميًا، إذ بدت الشبكة بأكملها وكأنها تُدار من زرٍّ واحد٬ انكشاف هذا الاعتماد المفرط على مزودٍ واحد جعل الخبراء يحذرون من “احتكار رقمي” قد يهدد الأمن السيبراني العالمي.
ولم يكد الغبار الرقمي يهدأ حتى كشفت الأشهر التي سبقت ذلك عن سلسلة حوادث أكثر تنوعًا٬ ففي يوليو 2025، تعطلت شبكة الإنترنت الفضائية “ستارلينك” التابعة لشركة “سبيس إكس” على نطاقٍ عالمي، بعدما تسبب خطأ برمجي في المحطات الأرضية في قطع الاتصال لعدة ساعات عن عشرات الآلاف من المستخدمين حول العالم. المفارقة أن الخدمة نفسها وُعدت بأنها بديل أكثر استقرارًا للإنترنت الأرضي، لتؤكد التجربة أن حتى الاتصالات عبر الأقمار الصناعية لا تخلو من نقاط ضعف بشرية وتقنية.
وفي الشهر نفسه، وتحديدًا في 7 يوليو، شهدت القاهرة واحدة من أخطر أزماتها الرقمية بعد اندلاع حريق ضخم في مبنى سنترال رمسيس، المركز العصبي للاتصالات في مصر٬ حيث التهمت ألسنة اللهب غرف الخوادم وكابلات الألياف، فاختفت إشارات الهاتف والإنترنت في مناطق واسعة من البلاد، وتراجعت حركة الشبكة إلى نحو 60% من مستواها المعتاد. توقفت البنوك، وتعطلت معاملات البورصة، وتحوّل العالم الرقمي في مصر إلى صمت مفاجئ. كان الحريق تذكيرًا مؤلمًا بأن الكارثة قد تبدأ بشرارة كهربائية واحدة داخل غرفة سيرفرات، لكنها قادرة على إغراق أمة كاملة في العزلة.
ثم جاءت حادثة البحر الأحمر في سبتمبر 2025 لتضيف بعدًا جغرافيًا للأزمة. فقد أُعلن عن تلف عدة كابلات بحرية تمر بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، مما أدى إلى اضطرابات حادة في الإنترنت في الشرق الأوسط وأجزاء من القارة الأفريقية. خلال ساعات، بدأت مؤشرات جودة الاتصال تتراجع، وتعطلت مراكز بيانات وشركات اتصالات كبرى. ومع أن الحادث لم يكن الأول من نوعه، إلا أنه كشف مجددًا عن أهمية هذه الكابلات التي تشكّل ما يشبه “شرايين العالم الرقمية”، والتي تمر معظمها عبر مناطق مضطربة سياسيًا، لتصبح البنية التحتية للإنترنت جزءًا من معادلة الأمن الدولي.
العام 2024 لم يكن أفضل حالًا، إذ شهدت القارة الأفريقية واحدة من أوسع الانقطاعات في تاريخها عندما تعطلت الكابلات البحرية “WACS” و“ACE”، فتأثرت ثلاثة عشر بلدًا من نيجيريا إلى ساحل العاج. توقفت الشركات، وتعطلت المعاملات، وعاشت دول بأكملها على الإنترنت الهاتفي البطيء كخيار وحيد. وفي نفس العام تقريبًا، شهدت منطقة بحر البلطيق حادثًا غامضًا بعد اكتشاف تلف في كابلات الاتصالات بين فنلندا وإستونيا، وسط حديث عن احتمال تخريبٍ متعمّد، مما أثار توترات سياسية حول “حرب الكابلات” الخفية التي قد تحدد مستقبل الاتصالات العالمية.
أما في نوفمبر 2023، فقد استيقظت أستراليا على واحدة من أكبر أزماتها الرقمية عندما انهارت شبكة Optus بالكامل. أكثر من عشرة ملايين شخص وجدوا أنفسهم بلا إنترنت أو اتصال أو حتى قدرة على الاتصال بالطوارئ. المشهد كان أقرب إلى توقف الحياة، إذ شُلّت أنظمة القطارات، والبنوك، والدفع الإلكتروني. بعد التحقيقات، تبين أن السبب كان تحديثًا برمجيًا خاطئًا تسبب في انهيار نظام توجيه البيانات (BGP). ومع أن العطل لم يستمر سوى 12 ساعة، إلا أن أثره كان كافيًا ليعيد النقاش حول مركزية الشبكات الوطنية وغياب البدائل الاحتياطية.
وفي عام 2022، عاشت كندا تجربة مشابهة حين توقفت شبكة Rogers عن العمل لأكثر من 15 ساعة، متسببة في تعطيل شامل للخدمات البنكية، والدفع الإلكتروني، وخطوط الطوارئ. اعتُبر الحادث “أزمة وطنية”، ودفع الحكومة إلى إصدار توصيات بتفكيك الاعتماد على مزود واحد للاتصالات. في تلك اللحظة، أدرك الكنديون أن فقدان الاتصال لا يقل خطرًا عن انقطاع الكهرباء أو الماء.
وقبل ذلك بعام، في أكتوبر 2021، اختفى العالم الافتراضي بكل ما فيه حين توقفت تطبيقات فيسبوك وإنستغرام وواتساب عن العمل بشكل مفاجئ لست ساعات. السبب كان خطأ بشريًا أثناء تحديث أنظمة التوجيه، لكنه كان كافيًا لإغراق مليارات المستخدمين في صمت رقمي. الناس لجأوا إلى تويتر وتلغرام كمنفى مؤقت، فيما خسرت “ميتا” نحو سبعة مليارات دولار من قيمتها السوقية خلال ساعات قليلة. وفي يونيو من العام نفسه، أدّى خلل برمجي في شركة “فاستلي” المسؤولة عن توزيع المحتوى إلى توقف مواقع عالمية كبرى لبضع ساعات، في مشهد كشف هشاشة البنية التي تحمل الإنترنت نفسه.
عام 2020 لم يمر دون علامة فارقة؛ ففي أغسطس، تعطلت شبكة “CenturyLink” الأميركية، وهي أحد أعمدة الإنترنت العالمي، ما أدى إلى تباطؤ كبير في حركة البيانات بنسبة تجاوزت 10% على مستوى العالم. كان ذلك الإنذار الأول من نوعه بأن خللاً محليًا في مزود رئيسي يمكن أن يُحدث أثرًا متسلسلًا في نصف الكوكب.
2019 تسبب ازدحام في شبكة “Google Cloud” في توقف خدمات مثل YouTube وGmail لساعات طويلة، تبعه في عام 2016 هجوم “Mirai” الإلكتروني الذي استهدف شركة “Dyn” المسؤولة عن إدارة أسماء النطاقات (DNS)، فانهارت مواقع مثل Twitter وNetflix وGitHub في واحدة من أضخم الهجمات السيبرانية التي عرفها العالم.





