يترقب المصريون خلال شهر نوفمبر المقبل زيارة بعثة من مسؤولي صندوق النقد الدولي لإجراء "المراجعة الرابعة" لبرنامج الإصلاح الاقتصادي حيث ينتاب الكثيرون مخاوف من أن تؤدي مطالب صندوق النقد إلى تعويم جديد للجنيه أمام العملات الأجنبية وبالتالي زيادة جديدة في الأسعار خصوصًا في ظل تمسك الصندوق بمطالبه برفع الدعم الحكومي للخدمات وتحرير سعر الصرف. أسعار الوقود وتأتي المراجعة الرابعة بعد أن أعلنت الحكومة عن زيادة أسعار الوقود للمرة الثالثة خلال العام الجاري بنسبة تتراوح بين 11% و13% وذلك بهدف تقليل الفجوة بين أسعار بيع المنتجات البترولية وتكاليفها الإنتاجية والاستيرادية المرتفعة تلك الخطوة التي ستزيد من معدلات التضخم المرتفعة التي يعاني منها المصريون حيث أدت إلى ارتفاع في أسعار عدد من السلع مع زيادة أخرى في أسعار الخدمات مثل الكهرباء وتذاكر المترو والقطارات. الإصلاح الاقتصادي وقد بدد الرئيس عبدالفتاح السيسي خلال كلمته بالمؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية الذي عقد منذ أيام هذه المخاوف حيث أكد أن الاتفاق مع الصندوق الدولي إذا وصل بالمصريين لـ"وضع غير محتمل" فستجري مراجعته كما أشار الدكتور مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء إلى إن الحكومة تستهدف مراجعة توقيتات ومستهدفات برنامج الإصلاح الاقتصادى مع صندوق النقد الدولى مشيرًا إلى أن البرنامج تم وضعه بمستهدفات وتوقيتات محددة ولكن ظهرت مستجدات مثل حرب غزة وحرب لبنان وتراجع إيرادات قناة السويس. صندوق النقد وقد أثارت توجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسي للحكومة بمراجعة اتفاقها مع صندوق النقد الدولي التساؤلات حول مصير الاتفاق الذي بموجبه يقرض الصندوق القاهرة مبلغ بقيمة 8 مليارات دولار ومدى استجابة الصندوق لمطالب الحكومة من أجل المراجعة حيث يرجح الخبراء أن يحاول صندوق النقد الدولي بناءً على التفاوض مع الحكومة المصرية مد أجل بعض المتطلبات في البرنامج الإصلاحي خاصة فيما يتعلق بتحرير أسعار الطاقة والتي كان قد أعلن أنه سيتم تحريرها بالكامل بنهاية 2025 لافتين إلى أنه حال موافقة الصندوق على هذا سيتيح للحكومة الوقت في سبيل معالجة التضخم على النحو الذي يتسق مع إجراءات البنك المركزي. وأشار الخبراء إلى أنه وفقاً لتصريحات مديرة صندوق النقد الدولي الأخيرة والتي أشارت خلالها إلى أن الصندوق يعي تمامًا التحديات التي تواجه الاقتصاد المصري بسبب التوترات في منطقة الشرق الأوسط ولا سيما في البحر الأحمر فإن هذا يعني أنه من الممكن إبداء مرونة أكثر مع البرنامج الاقتصادي المصري وعلى الجانب الآخر الدولة المصرية تبدي التزامًا واضحًا بتنفيذ البرنامج مع الأخذ في الاعتبار الأوضاع الداخلية وما تتطلبه من اتخاذ إجراءات تحمي بها الطبقات الأكثر هشاشة والأكثر فقرًا. الديون الخارجية ويرتبط المصريون بعلاقة غير طيبة مع المؤسسات الأجنبية المانحة ومنها صندوق النقد الدولي منذ عهد الخديوِي إسماعيل حين تمت الاستدانة بإسراف فترتب على ذلك فرض الوصاية الخارجية على الميزانية العامة المصرية وبعدها جاء الاحتلال الإنجليزي ثم استمرت هذه العلاقة المتوترة في عهد الرئيس جمال عبدالناصر الذي كثيرًا ما انتقد البنك الدولي وصندوق النقد في خطاباته كما فشلت أغلب اتفاقات مصر مع صندوق الدولي خلال السنوات اللاحقة لتأميم قناة السويس ففي 1962 وقعت مصر أول برنامج اقتصادي يتعاون معها الصندوق في أدائه لتوفير 5 ملايين دولار رهن طلب القاهرة الفوري إذا ما احتاجت إليها وهي خطوة تكررت كثيرًا في السنوات اللاحقة كلما احتاجت مصر دعمًا ماليًا لميزانيتها السنوية. وفي أغلب الأحوال كانت مصر لا تستكمل بنود هذه البرامج حتى النهاية لأنها عادة ما تشمل الشروط المعتادة من ضرورة خفض سعر الجنيه أمام الدولار ورفع أسعار المنتجات البترولية وفرض ضرائب جديدة لتقليل عجز الموازنة والإسراع في تنفيذ برامج خصخصة الشركات والبنوك العامة وعندما مرت مصر خلال فترة الثمانينيات بأزمة كبيرة بسبب تراكم ديونها الخارجية التي بلغت 49.9 مليار دولار بما يزيد عن 145% من الناتج المحلي الإجمالي حينها حسبما أعلن البنك الدولي الأمر الذي خلق عبئًا كبيرًا على ميزانية الدولة وأصبح مجرد الوفاء بأقساط "خدمة الدين" يستنزف قدرًا كبيرًا من احتياطي مصر من العملات الأجنبية. الشريحة الرابعة وبعد مشاركة مصر الفعالة في تحرير الكويت من العراق خلال حرب الخليج الثانية عام 1991 قررت الولايات المتحدة إعفاء مصر من ديونها العسكرية كما دعت الدول الدائنة لمؤتمر في باريس لبحث مناقشة شطب نصف ديونها على مصر حيث بادرت السعودية والكويت بشطب إجمالي الديون 6 مليارات دولار دون قيدٍ أو شرط أما الدول الأخرى اليابان وعدة دول أوروبية فأبدت استعدادها لشطب نصف الديون 4 مليارات دولار بشرط أن تتوصل مصر إلى اتفاق مع صندوق النقد حول برنامج إصلاح اقتصادي جذري الذي أصر على تبني سياسات اقتصادية تقوم على رفع الدعم وتحرير سعر الصرف. وظل الصندوق يعرقل إسقاط 4 مليارات دولار من ديون مصر تمثل شريحة من الديون التي تم الاتفاق على إسقاطها بشرط إحراز تقدم في تطبيق برامج إصلاح اقتصادي حتى جاء عام 1996 لتنفذ مصر للمرة الأولى برنامجًا إصلاحيًا كاملًا للاقتصاد بدعم من الصندوق استمر عامين تقريبًا بعد مفاوضات صعبة بسبب رفض الحكومة الاستجابة لمطالب الصندوق بخفض سعر صرف الجنيه أمام الدولار. وفي ديسمبر 2022 وافق الصندوق على منح مصر 3 مليارات دولار ثم وافق على زيادة قدرها 5 مليارات دولار للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي وتصحيح الانحراف في مسار السياسات حيث صرفت إدارة الصندوق 3 دفعات منه مع توقعات بأن يبدأ الصندوق "المراجعة الرابعة" في نوفمبر المقبل تمهيدًا لصرف الشريحة الرابعة من القرض بقيمة 1.3 مليار دولار. الدول الفقيرة وصندوق النقد تم تأسيسه بجانب البنك الدولي للإنشاء والتعمير بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بهدف المساعدة في إعادة إعمار أوروبا وهي المهمة التي تحققت بسرعة بفضل مشروع مارشال الأمريكي بعدها بدأ البنك الدولي في التعامل مع الدول النامية من الخمسينيات أما صندوق النقد فظل أغلب عمله مع الدول الصناعية المتقدمة حتى سبعينيات القرن الماضي ما جعله أقل حساسية بمشكلات العالم النامي من البنك الدولي. وبالرغم من أن الصندوق أخذ الجوانب الاجتماعية والسياسية في اعتباراته الاقتصادية خلال السنوات الأخيرة إلا أن "إرث الماضي" لا يزال يلاحقه حتى اليوم فكثيرًا ما يتهم بأنه ليس مؤسسة محايدة وإنما يسعى لاستغلال حاجة الدول الفقيرة ليجبرها على اتباع أجندة سياسية غربية مقابل الموافقة على مساعدتها لذا شاع بين المصريين لقب ساخر على الصندوق وهو "النكد الدولي" وهي تسمية لم يقتصر استخدامها على عوام المصريين وحسب بل استعملها مسؤولون بارزون بالدولة على رأسهم الرئيس الراحل حسني مبارك.