تدخل مصر عام 2023 وسط عدد من التحديات الاقتصادية التي تضعها أمام اختبار صعب، بينما يعاني المواطنون من توابع خفض قيمة الجنيه وتراجعها أمام العملات الأجنبية، مع نقص الدولار وارتفاع فاتورة الواردات الأساسية، وذلك بعد عام من الحرب الروسية الأوكرانية التي أسفرت عن نقص إمدادات مواد أساسية مثل النفط والغاز والقمح،وارتفاع أسعارها في الأسواق العالمية.
وإثر هذه التحديات والضغوط، لم يكن أمام الحكومة سوى التفاوض من جديد مع صندوق النقد الدولي، بغية الحصول على قرض جديد بقية ثلاثة مليارات، علّه يقيل عثرتها، وقد توصل الطرفان فعلا إلى اتفاق قبل أيام، إلا أن اتفاقا كهذا لن يخلو من اشتراط خفض جديد لقيمة الجنيه وهو ما ينذر بمزيد من الضغوط على الدولة ويلقي بالقلق في قلوب المواطنين الذين يرزحون تحت وطأة الاختناق الاقتصادي العام الذي تعيشه البلاد.
ومع أن الحكومة شددت للناس على أن الاتفاق ينشد القضاء على حالة الاضطراب الاقتصادية القائمة، وخلق حالة بديلة من النمو المستدام، شكك محللون كُثُر في ذلك، ما لم تستقر العملة المحلية أمام الدولار، وما لم تخلق الدولة مناخا إيجابيا قويا جاذبا للاستثمارات الأجنبية.
وحجة الذين يشككون في ما تقوله الحكومة تبدو منطقية، إذ إن بنود الاتفاق مع صندوق النقد تشير إلى أن الدفعات التي ستتلقاها الدولة من صندوق النقد متواضعة، ومن ثمّ فإنها لا تكافئ حجم الإنفاق المتوقع والضروري لإنجاز الأهداف المنشودة، فضلا عن أن حجم الدين الخارجي أصبح يلامس 177 مليار دولار، أي ما يمثل تسعةً وثمانينبالمئة من الناتج المحلي الإجمالي وفقا لمؤسسة التجارة الخارجية الألمانية للاستثمار والتجارة.
وبلوغ الدين إلى هذا الحد المرتفع، يعني أن خدمته التي هي بالفعل كبيرة وثقيلة ستزداد ثقلا، إذ يتعين سداد نحو اثنين وأربعين مليار دولار في 2022-2023، وفق البنك الدولي، وهو ما يلقي بأعباء أشد ثقلا على كاهل الدولة التي تجد نفسها مضطرة أيضا إلى التعامل مع فاتورة وارادت ضرورية وليست بالقليلة، بينما الاحتياطي النقدي منالعملة الصعبة آخذٌ في التراجع. وتواجه الحكومة حاليًّا أزمة حادة لتغطية تكاليف الواردات المتزايدة من السلعالضرورية، بينها الأغذية والأدوية.
وتحتاج الدولة إلى نحو أربعة عشر مليار دولار إضافية، من أجل إنعاش عملية الإصلاح الاقتصادي وسد العجز الناتج عن نقص العملة الأجنبية، إلا أن القروض المتزايدة تمثل تهديدًا كبيرًا في ظل أن واردات البلاد من العملة الصعبة لاتفي بمتطلبات خدمة الدين.
وبينما تكافح مصر، التي قالت وكالة “موديز” إنها من بين خمس دول في العالم معرضة لفقدان قدرتها على “سداد الديون“، من أجل توفير أكبر قدر من الدولار، فإنها تواجه مشكلة يبدو حلّها أمرا بعيد المنال على الأقل في الوقتالراهن، ألا وهي استمرار تراجع الجنيه أمام العملة الأمريكية، فالعملتان بينهما علاقة عكسية، لم تفلح القروض ولاالتمويلات الخارجية في فك شفرتها.
وانخفض سعر صرف الجنيه بأكثر من مئة بالمئة مقابل الدولار، قبل أن تصبح نسبة التراجع 91 بالمئة، بعدما خفضت قيمة العملة المصرية للمرة الثالثة في 10 أشهر، استجابة لمطالب صندوق النقد.
وأمست الحكومة في وضعٍ لا تُحسد عليه، إذ إنها كلما تعهدت بمرونة أكثر في سعر صرف الجنيه، زاد تراجعه بسببزيادة الطلب على الدولار، فيزيد نقص الأخير في السوق بشكل يرفع سعره، وهكذا كأنها معركة بين قط وفأر. أضفإلى ذلك عزوف الاستثمارات الأجنبية الطويلة الأجل عن دخول السوق المصرية، مما دفع الحكومة إلى البحث عنحلول لهذه المعادلة المعقدة.
وإزاء ذلك، لم تجد الحكومة مفرًا من اللجوء إلى سياسة جديدة فتحت باب الجدل الشعبي على مصراعيه، إذ إنها تنوي بيع مزيد من المؤسسات الحكومية، في خطوة من شأنها أن تطلق يد القطاع الخاص وتقلص دور الدولة فيالاقتصاد، وتفسح الطريق أمام الاستثمار الداخلي والأجنبي في مجالات كانت حكرا على الدولة.
ويتولى صندوق “ما قبل الطروحات” التابع لصندوق مصر السيادي، الإعداد لبيع شركات حكومية تقدر بنحو 6 مليارات دولار، وهي عملية ستكون تدريجية، حيث من المتوقع الإعلان عن شريحة أولى من الشركات في شهر يناير الحالي، وهي شريحة تستهدف تحقيق إيرادات قد تصل إلى ثلاثة مليارات دولار، وفقا لتصريحات سابقة لوزيرةالتخطيط، هالة السعيد.
وأفادت تقارير بأن صندوق مصر السيادي، يعتزم طرح حصص في شركات أخرى للبيع، بينها شركات تأمين وشركاتتعمل في مجال مشتقات النفط إضافة إلى مؤسسة مالية، وذلك كله في إطار وثيقة عُرفت بـ“سياسة ملكية الدولة“،وهي وثيقة أقرتها الحكومة في نهاية ديسمبر الماضي، تحدد اثنين وستين نشاطا اقتصاديا ستنسحب منه الحكومةلصالح القطاع الخاص، بناءً على طلبٍ من صندوق النقد الدولي، الذي وافق على برنامج إنقاذ جديد لمصر بقيمةثلاثة مليارات دولار على 46 شهرا.
ومع أن الوثيقة لم تعيّن الأنشطة الاقتصادية التي ستنسحب منها الدولة لصالح القطاع الخاص على وجه التحديد، إلاأنها حددت في شهر مايو الماضي مجموعة من الأصول الحكومية التي ستعرض على مستثمري القطاع الخاص، بينهاصناعة السيارات الكهربائية ومراكز البيانات وشبكات النفط والغاز.
إلى ذلك، وافق مجلس النواب على قانون إنشاء صندوق تابع للهيئة للاستثمار يجيز بيع أصول قناة السويس، وهو ما أشعل جدلا واسعا، اضطر الفريق أسامة ربيع، رئيس هيئة قناة السويس، إلى عقد مؤتمر صحفي لاحتوائه، حيث أكدأن إنشاء صندوق استثماري تابع للهيئة لا يعني بأي حال التصرف في أي أصل من أصول القناة باعتبارها مملوكةللشعب بنص الدستور.
وأوضح الفريق ربيع أن الصندوق المزمع إنشاؤه سيمول من فائض الميزانية الخاصة بالهيئة، وأن الهدف منه تطوير الهيئة ومشروعاتها لما فيه منفعة الشعب المصري، مؤكدا على أنه لن يسمح لأي طرف أجنبي السيطرة على أيمشروع من مشاريع الصندوق، وأن السيادة على القناة ستظل مصرية، في إشارة إلى ما أثير حول استغلال أصولالقناة.
على مستوى المواطن، خسرت فئات عريضة أكثر من ثلث قوتها الشرائية خلال أقل من عام، ويرى خبراء أن الاقتصاد بدأ الدخول في بوادر مرحلة ركود تضخمي مع بداية العام الجديد، بينما تنخفض القوى الشرائية للمواطن الذي لم يعد قادرا على مواكبة الزيادة في أسعار السلع.
ويعني مصطلح الركود التضخمي إلى استمرار ارتفاع أسعار السلع على الرغم من تراجع الطلب عليها وضعف القوة الشرائية للمواطنين، وهو ما يشير إلى تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي، وتوصف بأنها أسوأ مرحلة قد يمر بها اقتصادأي دولة، وفقا لعدد من الخبراء.