حمل الأربعاء الماضي صدمةً كبرى لدى المواطنين، إذ سجل الجنيه المصري انخفاضا غير مسبوق في تاريخه أمامالدولار الأمريكي، في وقتٍ ليس في وسعهم تحمّل المزيد من الضغوط.
وهوى الجنيه إلى مستوى هو الأدنى على الإطلاق ليصل إلى 32.20 للدولار، وهو أمرٌ كان ضروريًا للحكومة التياشترط عليها صندوق النقد الدولي عددا من الشروط كان في مقدمتها “مرونة سعر الصرف“، حتى يوافق على منحهاقرضًا بقيمة ثلاثة مليارات دولار، ضمن برنامج إنقاذ مدته ستةٌ وأربعون شهرا، وهو رابع قرض تحصل عليه مصر منالصندوق، فمنذ عام 2016، اقترضت نحو 20 مليار دولار، لتصبح من بين أكثر الدول اقتراضا من الصندوق.
وينذر انهيار الجنيه بنسبة بلغت 104 بالمئة بمزيد من تعقيد الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية في مصر لدى عامةالمواطنين باختلاف طبقاتهم، ذلك أنّ نسبة التضخم تجاوزت وفق بيانات رسمية 21 بالمئة.
ويعيش ثلث سكان مصر البالغ عددهم 104 ملايين تحت خط الفقر، وفق البنك الدولي، بينما ثلث آخر “معرّضونلأن يصبحوا فقراء“.
وعلى مدار العام الماضي، تراجع احتياطي النقد الأجنبي بشكل واضح، ما خلق أزمات عدة في البلاد، أبرزها تعثرالاستيراد، في بلد يعتمد بشكل كبير على السلع القادمة من الخارج. كما أدى تراجع الاحتياطي إلى إصدار الحكومةحزمة قرارات لـ“ترشيد الإنفاق العام” وتأجيل “المشروعات الدولارية“، إلى جانب ضرورة موافقة وازارة المالية علىأوجه الصرف بالنقد الأجنبي بعد التنسيق مع البنك المركزي، مع “تأجيل الصرف على أي احتياجات لا تحمل طابعالضرورة القصوى“.
ولا شكّ أن التوسع في مشروعات البنية التحتية وإنجازها في فترة زمنية قصيرة سبب ضغطا على موارد البلاد منالدولار، وفقا للخبير الاقتصادي هاني جنينة، الذي يقول إن هذه المشروعات وإن كانت “في حد ذاتها مفيدة لكن ماأُنجز في عام أو عامين كان من الأفضل أن ينجز في خمسة أعوام مثلا“، لافتا إلى أن التسارع في الإنفاق الحكومي دفعالدولة للاستدانة من أجل إنجاز تلك المشروعات.
“كان قرار خفض قيمة الجنيه ضروريا لإدخال الموارد الدولارية المتاحة إلى النظام المالي الرسمي، لكنه جاء متأخراجدا” بحسب ما يقول المستشار الاقتصادي وخبير أسواق المال، وائل النحاس، الذي أيّده أستاذ الاستثمار والتمويل،مدحت نافع، بالقول إن القرار “كان من المتوقع أن يتخذ مبكرا“، مشددًا في الوقت ذاته على أن “توفير بدائلللواردات في السوق المصري، والتحول إلى التصدير لجلب عملة صعبة للبلاد” بات أمرًا لا مفرّ منه، بحسبتصريحاتهما لموقع هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي“.
وفي ظل تلك الظروف الصعبة، تجد الحكومة نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الحصول على الدعم من الأشقاءوالأصدقاء في هيئة تدفقات دولارية نقدية، وإن كانت بوادر هذا الدعم غير موجودة، وإما الخيار الأصعب وهومواصلة سياسة التقشف وتقييد الواردات، وهو ما قد يفوق طاقة مجتمع الأعمال إذا طالت مدة تنفيذه، في مهمة فيغاية الصعوبة لتوضيح الرؤية حول مستقبل الجنيه المحلي وتوفير الدولار. ولذلك فمصر، بحسب الخبير الاقتصاديعبد النبي عبد المطلب.
ولقد تحدث الرئيس عبد الفتاح السيسي في الموضوع بوضوح حين قال “لم تساعدنا الدول التي كانت تقوم بذلك فيالماضي. وليس أمامنا إلا خيار الاعتماد على أنفسنا“، وهو ما يزيد من صعوبة الأزمة وفقا للمحلل السياسي والخبيرفي العلاقات الدولية المصري محمد اليمني، الذي يؤكد في تصريحات لوكالة فرانس برس أن “الوضع صعب للغاية“،مرجعًا ذلك إلى الحرب الروسية الأوكرانية التي “إذ لم تتوقف فنحن مقبلون على كارثة“، حسب تعبيره.
ويذهب اليمني إلى أبعد من لك بالقول إن “الأمور الاقتصادية لا تبشر بخير أبدا” مضيفًا أن “الحكومة فشلت فشلاذريعا ولا بد من استقالات أو إقالات جماعية، ولا بد من تحرك داخلي في بعض الوزرات وفي بعض المناصب المهمةجدا“.
لكنّ الخبراء حددوا عددا من الإجراءات التي لو اتخذتها الحكومة، لاستقرّ سعر الصرف وتوقف انهيار الجنيه إلى أدنىمما هو عليه الآن، أولها الإفراج العاجل عن السلع المحجوزة في الموانئ لإحداث انفراجة في السوق، بجانب أن توفرالبنوك السيولة الدولارية المطلوبة للشركات والمستهلكين، لإبعادهم عن السوق الموازية.
كما يشدد الخبراء على ضرورة أن تسارع الحكومة إلى إصدار حزمة من القرارات التي تستهدف تحفيز الاستثماروخلق فرص تمويلية، ومنع الدولرة ومراقبة الأسواق التي انتقد مجلس النواب الحكومة بشأنها في الفترة الأخيرة.
يقول مدحت نافع، أستاذ الاستثمار والتمويل إنه “لا بديل – سواءٌ على المدى المتوسط أو الطويل– عن توفير بدائلللواردات في السوق، والتحول إلى التصدير لجلب عملة صعبة للبلاد، وهو ما يتطلب محفزات تمويلية لدعمالمشروعات الصغيرة والمتوسطة بهدف مساعدتها على الإنتاج من أجل التصدير“.
جزء كبير من المسؤولية عن هذه الأزمة تتحملها الحكومة بحكم “الأخطاء المتراكمة التي ارتكبت في إدارة ملفالسياسة النقدية، وبينها السماح بدخول الأموال الساخنة“، إضافة إلى “عدم اتخاذ إجراءات عاجلة للتعامل معأزمتها وتركها تخرج دون تعويض“، ثم “تقييد الواردات أو وقفها دون وجود بديل محلي“، بحسب الخبير عبد النبيعبد المطلب الذي يرى أن “حل المشكلة الاقتصادية الحالية، يستلزم وجود آليات مبتكرة لاستعادة ثقة المواطنوالمستثمر المصريين“.
ويعتقد الخبير الاقتصادي أن إصدار “شهادات استثمار دولارية طويلة الأجل بعائد مرتفع قد يسهم في حل سريعلجزء من الأزمة“. لكنّ الكومة وإن كانت تتحمّل جزءًا كبيرا من تلك الأزمة فإنها في المقابل تمتلك أدوات كثيرةًلحلها، منها مثلا زيادة المعروض من السلع الغذائية في منافذها بأسعار مخفضة، أو السماح باستيراد مكوناتالأعلاف والزيوت وغيرها من المواد الغذائية أو المحسوبة على صناعة الغذاء، برسوم جمركية مخفضة، ويمكنهاتشديد الرقابة على الأسواق لمنع رفع التجار للأسعار دون مبررات حقيقية، كما يمكنها الدخول كمشتر ومسوقلبعض المحاصيل الاستراتيجية مثل القمح والأرز، لموسم أو موسمين، على حد تعبيره.
هذه الإجراءات وإن كانت ستسهم في استقرار سعر الصرف وإيقاف الهبوط الحاد للجنيه، لكنّها لن تنهي الأزمة علىالفور، وفقا للخبير هاني النحاس الذي يؤكد أيضا ضرورة أن إلغاء غرامات التأخير المفروضة على المستوردين وسدجميع الثغرات التي قد تفتح الباب أمام المزيد من الاضطرابات في الأسواق.
كما شدد على ضرورة إعداد خطة واضحة لإدارة الأزمة الحالية قبل نهاية عطلة السنة القمرية الصينية الجديدة فيالثامن عشر من يناير الجاري، للاستفادة من تراجع الطلب على الدولار، وتحديد مسار واضح للتعامل مع الأزماتالحالية قبل هذا التاريخ قبل أن “تستنفد مصر فرص النجاة” على حد قوله.