
في خطوة مثيرة للاهتمام وحافلة بالتفسيرات، أصدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قرارًا جمهوريًا بتخصيص مساحة تبلغ نحو 174.4 مليون متر مربع في منطقة “رأس شقير”، الواقعة على ساحل البحر الأحمر، لصالح وزارة المالية.
القرار يأتي ضمن تحرك واسع النطاق من الدولة لإعادة هيكلة الدين العام وتوفير أدوات تمويل غير تقليدية، أبرزها “الصكوك السيادية”. لكن مع الإعلان الرسمي، انطلقت تساؤلات وجدالات: هل تبيع مصر أراضيها لسداد ديونها؟ أم أن الأمر يمثل تحولاً استراتيجياً في إدارة الأصول العامة؟
مقارنة تفرض نفسها
لم يغب عن المتابعين أن هذا القرار يأتي بعد أشهر قليلة من صفقة رأس الحكمة، التي أثارت جدلاً واسعًا وقتها بعد أن باعت الدولة المصرية نحو 170 مليون متر مربع من الأراضي الواقعة على ساحل البحر المتوسط لمستثمر إماراتي مقابل 35 مليار دولار، في واحدة من أكبر صفقات الاستثمار العقاري والسياحي في المنطقة.
لكن رأس شقير ليست رأس الحكمة. الفرق الجوهري، كما يوضحه المسؤولون والخبراء، يكمن في طبيعة التخصيص والهدف من العملية. ففي رأس الحكمة جرى البيع المباشر للأرض بهدف الحصول على تدفقات نقدية سريعة. أما في رأس شقير، فالأرض تم تخصيصها لوزارة المالية لتكون أصلًا مضمونًا لإصدار صكوك سيادية إسلامية.
الصكوك السيادية هي أدوات مالية متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية، تشبه السندات التقليدية ولكنها تقوم على مبدأ المشاركة في الربح والخسارة. ولا تمثل الصكوك ديونًا مباشرة على الدولة، بل تمثل حصة في مشروع أو أصل، يتقاسم حاملوها العوائد الناتجة عنه.
تمثل هذه الصكوك، بحسب أيمن الصاوي، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة بكرة القابضة، “نقلة نوعية في إدارة الأصول”، حيث يتم استغلال الإيرادات المستقبلية للعقار أو المشروع، وليس الأصل نفسه. ويضيف: “نحن لا نبيع أصولنا، بل نحسن استخدامها ونحوّلها إلى أدوات تمويل ذكية ومستدامة”.
هل تصبح رأس شقير “رأس الحكمة الجديدة”؟ سؤال طرحه أيمن الصاوي في ختام بيانه: “هل تصبح رأس شقير رأس حكمة جديدة؟”، لكنه أجاب في نفس السياق بأن الفرق الجوهري هو أن نموذج رأس شقير لا يقوم على البيع بل على إدارة الإيرادات وتحويل الأصول إلى أدوات تمويل متجددة.
لماذا رأس شقير؟
رأس شقير ليست منطقة عادية؛ تقع على بعد 350 كيلومتراً جنوب شرق القاهرة، بالقرب من الطرف الجنوبي لخليج السويس، وتُعد أكبر موقع لإنتاج النفط البحري في مصر، بإنتاج يصل إلى 100 ألف برميل يومياً. كما تضم بنية تحتية نفطية مهمة من محطات ضخ وتخزين وخطوط أنابيب.
وفي السنوات الأخيرة، تحولت رأس شقير إلى واحدة من أهم مناطق الاستثمار في مجال الطاقة المتجددة، خصوصاً طاقة الرياح. سرعات الرياح التي تتراوح بين 8 إلى 10 أمتار في الثانية جعلت المنطقة، ومعها منطقة جبل الزيت المجاورة، من أنشط بقاع مصر لمشروعات الطاقة النظيفة.
بل إن الحكومة المصرية تخطط، وفق ما أكدته مصادر مطلعة لقناة “العربية Business”، لإقامة مشروعات لإنتاج الهيدروجين الأخضر ومشتقاته من الأمونيا الخضراء في المنطقة، بالتعاون مع تحالف دولي يضم شركات طاقة متجددة.
وتمضي الحكومة قدمًا في تفعيل مشروعات للطاقة المتجددة في رأس شقير. أبرز هذه المشروعات اتفاق مصري فرنسي ضخم لإنشاء محطة متكاملة لإنتاج الهيدروجين الأخضر ومشتقاته، والأمونيا الخضراء، باستثمارات تصل إلى 7 مليارات يورو.
وفي هذا السياق، وافقت وزارة النقل على السير في إجراءات مشروع المنطقة اللوجستية الصناعية الخضراء برأس شقير، والتي تضم منشآت طاقة خضراء وميناء جديد لخدمة تصدير الوقود النظيف وربط مشروعات الكهرباء.
ويتضمن المشروع، المزمع تنفيذه على ثلاث مراحل حتى 2029، إنتاج مليون طن من الأمونيا الخضراء سنويًا، بدءًا بإنتاج 300 ألف طن في المرحلة الأولى الممولة بالكامل من التحالف الاستثماري، دون أي أعباء على الدولة. ويشمل المشروع أيضًا تدريب العمالة المصرية لتصل نسبتها إلى 95% من قوة العمل.
التمويل من الأصول
الخبير الاقتصادي هاني توفيق يوضح أن نقل ملكية الأرض لوزارة المالية لا يعني بيعها، بل تخصيصها لاستخدامها كضمان لإصدار صكوك سيادية. ويتوقع أن يجذب هذا النموذج تمويلاً قد يتجاوز تريليون جنيه، يُستخدم لسداد جزء من مديونية الدولة.
أما محمد عبد العال، الخبير المصرفي، فيرى أن فلسفة إصدار الصكوك تقوم على الشراكة وليس البيع. ويضيف أن وزارة المالية لا تملك قانوناً بيع الأرض، لكنها تستطيع استخدام الإيرادات المتوقعة منها لتمويل مشروعات مستقبلية أو خفض عجز الموازنة.
مصر أصدرت أول صكوك سيادية لها في فبراير 2023 بقيمة 1.5 مليار دولار في بورصة لندن، وكانت مغطاة بأكثر من 4 مرات، ما كشف عن شهية المستثمرين لأدوات التمويل الإسلامية المصرية.
وفي 2025، تستعد الحكومة لطرح أول إصدار من الصكوك السيادية بالجنيه المصري محلياً. ويقول أحمد كجوك، نائب وزير المالية، إن هذا التوجه يستهدف تنويع أدوات الدين وتعميق السوق المحلية.
ما وراء القرار
تشير بيانات وزارة المالية إلى أن الدين العام في مصر ارتفع إلى 13.33 تريليون جنيه بنهاية سبتمبر 2024، وأن الحكومة تستهدف خفض نسبته إلى الناتج المحلي من 89% حالياً إلى 80% بحلول يونيو 2027.
وتواجه مصر التزامات ضخمة لخدمة الدين، حيث بلغ عبء خدمة الدين الخارجي خلال النصف الأول من العام المالي الحالي نحو 21.3 مليار دولار، وفق بيانات البنك المركزي.
في هذا السياق، يمثل استخدام الصكوك بديلاً استراتيجياً للتمويل التقليدي عبر أذون وسندات الخزانة. بل وتتيح الصكوك تمويلاً “ذكياً” قائمًا على أصول حقيقية بدلاً من القروض المباشرة.
أحد المحاور التي أُثيرت بشأن مشروع رأس شقير هو ما إذا كانت هناك تنازلات أمنية. ولكن تصريحات المسؤولين أكدت أن الاعتبارات العسكرية والاستراتيجية أُخذت بعين الاعتبار، وأن التخصيص لم يشمل المناطق ذات الحساسية الأمنية أو الوجود العسكري.
الاستثمار في المستقبل
وفق مصادر رسمية، فإن وزارة المالية ستطرح الصكوك السيادية الخاصة برأس شقير على مستثمرين استراتيجيين، محليين ودوليين، وسترتبط تلك الإصدارات بمشروعات واضحة ومحددة في نفس المنطقة، سواء في الطاقة أو الصناعة أو اللوجستيات أو السياحة البيئية.
وتدرس الدولة حالياً، بالتعاون مع القطاع الخاص، إقامة مشروع سياحي في منطقة رأس شقير، بالتوازي مع المشروعات الصناعية، في محاولة لخلق توازن بين استغلال الموارد الطبيعية والمحافظة على البيئة.