
في خضم تحوّل عالمي متسارع نحو الرقمنة، لم تكن مصر بعيدة عن هذا الحراك التقني، بل تبنّت استراتيجية طموحة لتحديث
بنية الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات خلال السنوات الخمس الأخيرة.
هذا التوجه أسفر عن قفزات ملحوظة في سرعة الإنترنت، وتوسع في خدمات المحمول، وتكامل شبكات الألياف البصرية، مما عزز من جاهزية الدولة للثورة الصناعية الرابعة.
غير أن حادث الحريق الذي اندلع بمبنى سنترال رمسيس في يوليو 2025، مثّل اختبارًا حقيقيًا لهذه البنية المتطورة. فبين لحظة وأخرى، تعرّض أحد الأعمدة الفقرية لشبكة الاتصالات في قلب العاصمة لدمار جزئي، ما أثار تساؤلات جوهرية حول قدرة النظام على امتصاص الصدمات، واستمرارية الخدمة، وفعالية البدائل الاحتياطية التي تم بناؤها على مدار سنوات.
على مدار الأعوام الخمسة الأخيرة، ضخت الدولة المصرية استثمارات ضخمة في قطاع الاتصالات، تجاوزت قيمتها 150 مليار جنيه.
شملت هذه الاستثمارات مد شبكات الألياف الضوئية إلى أغلب المحافظات، وتحديث البنية التحتية لمراكز البيانات، وربط المؤسسات الحكومية ضمن مشروع “مصر الرقمية.
كما تم تعزيز شبكات الكابلات البحرية، لتصبح مصر مركزًا إقليميًا لحركة البيانات بين أوروبا وآسيا وأفريقيا.
هذه القفزات لم تكن شكلية، بل انعكست فعليًا على سرعة الإنترنت التي تضاعفت أكثر من عشر مرات، وعلى جودة الخدمة المقدمة للمواطنين والشركات على حد سواء.
ترافق ذلك مع توسع غير مسبوق في أبراج شبكات المحمول، حيث ارتفع عددها من أقل من 10 آلاف برج في 2018 إلى أكثر من 36 ألف برج عام 2025، في ظل استعداد الشركات لإطلاق خدمات الجيل الخامس.
وقد شهد السوق المصري اتفاقيات كبرى مثل صفقة المصرية للاتصالات مع 4iG Group المجرية، لتوصيل الإنترنت فائق السرعة عبر الألياف الضوئية لنحو 6 ملايين منزل.
هذه التحركات وضعت مصر على خريطة المنافسة الرقمية عالميًا، خصوصًا في ظل تنامي الطلب على خدمات الحوسبة السحابية والأمن السيبراني.
غير أن اختبارًا غير متوقع جاء على شكل كارثة مفاجئة، تمثلت في نشوب حريق ضخم داخل سنترال رمسيس صباح 7 يوليو الجاري، هذا المبنى الذي يُعد من أقدم وأهم مراكز تبادل الاتصالات في القاهرة، استوعب لعقود تدفقات المكالمات وخدمات الإنترنت بين شرق وغرب العاصمة، وربط جهات حكومية حيوية كمطار القاهرة، ومؤسسات مالية كبرى، وشبكات إعلامية وطنية.
ووفق تقارير فنية، فإن أكثر من 40% من حركة الاتصالات داخل القاهرة الكبرى كانت تمر عبر هذا السنترال.
ومع اندلاع الحريق، الذي أسفر عن عدد من الإصابات والوفيات، أُجبرت الجهات المسؤولة على فصل التيار الكهربائي عن المبنى بالكامل. وكنتيجة فورية، تعرّضت خدمات الاتصالات لانقطاعات واسعة، شملت الإنترنت المنزلي وخدمات المحمول وحتى بعض الشبكات البنكية وخطوط الطوارئ.
أشارت NetBlocks إلى أن نسبة كفاءة الاتصال انخفضت إلى 62% فقط مقارنة بالمستويات الطبيعية، ما كشف عن مدى اعتماد النظام على مركزية البنية التحتية في هذا السنترال.
ورغم خطورة الموقف، أظهرت التجهيزات التقنية الحديثة قدرتها على احتواء الأزمة خلال وقت قياسي.
فقد تم تفعيل خطط الطوارئ، وإعادة توجيه حركة الاتصالات إلى سنترالات بديلة، كان أبرزها سنترال الروضة الذي لعب دورًا محوريًا في امتصاص الضغط.
كما قامت الشركات المزودة للخدمة مثل فودافون واتصالات وأورانج والمصرية للاتصالات بتفعيل خطوط بديلة واحتياطية، إلى جانب تشغيل مراكز الدعم الفني على مدار الساعة.
أحد أبرز المؤشرات على فاعلية هذه الخطط كان عودة الخدمات تدريجيًا خلال أقل من 24 ساعة، في حين استكمل إصلاح السنترال الأصلي خلال أسبوع، وفق تصريحات وزارة الاتصالات.
هذا الأداء السريع لم يكن ليتحقق لولا التطويرات السابقة في شبكات الألياف الاحتياطية وتعدد نقاط الربط والمراقبة الذكية التي تم تركيبها خلال مشاريع التحول الرقمي الأخيرة.
وفي هذا السياق، صرّح الدكتور عمرو طلعت وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات قائلاً: «إذا كان سنترال رمسيس هو العمود الفقري للبنية التحتية، فهل توقفنا الآن؟ لا طبعًا. لو كان يعتمد عليه بالكامل في الإنترنت، لما كنا نتحدث بهذا الشكل – عبر الإنترنت نفسه – خلال الأزمة.
وأضاف طلعت٬ أن شبكتنا أثبتت أنها مصممة للعمل تحت ضغط شديد، وتمت إعادة توجيه الحركة فور اندلاع الحريق، وباتت الخدمات تتم عبر مراكز بديلة دون انقطاع كبير». وأكد أيضًا أن الموقع لن يُعاد تشغيله إلا بعد فحص دقيق وتطبيق معايير السلامة، مشيرًا إلى أن البنية الاحتياطية أثبتت كفاءتها.
أما الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات فقد أعلن في بيان رسمي٬ أنه تم تحويل كل حركات الإنترنت الثابتة إلى سنترال الروضة البديل، كما أن خدمات الإنترنت الثابت والمحمول تأثرت جزئيًا بسبب الأضرار في بعض الدوائر، لكن فرق فنية من الشركة القومية للاتصالات والمشغلين عملت على إعادة الربط فورًا.
وأضاف القومي لتنظيم الاتصالات٬ أن 70 % من خدمات الإنترنت المنزلية لم تتأثر خلال الحادث، وقد تم تعويض المستخدمين المتضررين ببيانات مجانية من قبل المشغلين بناءً على توجيهاتنا.
وفي نظرة شاملة لما بعد الحريق، أكدت الحادثة على أهمية استكمال خطط توزيع الخدمة، وتخفيف الضغط عن المراكز الحيوية، وتوسيع الاعتماد على بنية لامركزية تضمن استمرارية التشغيل حتى في حال وقوع كوارث مشابهة.
كما دعت الخبرات الفنية إلى ضرورة تحصين المباني السيادية للاتصالات ضد الحرائق والكوارث البيئية، وتفعيل نظم مراقبة ذكية وإنذار مبكر.
على صعيد آخر، يواصل قطاع الاتصالات نموه في اتجاهات متعددة، أبرزها إطلاق خدمات الجيل الخامس، بعد أن حصلت الشركات على التراخيص اللازمة مقابل نحو 675 مليون دولار.
كما تتسارع عمليات التوصيل المنزلي بشبكات الألياف الضوئية (FTTH)، إلى جانب توسعات في مراكز البيانات الحكومية والخاصة، وتكاملها مع مشاريع المدن الذكية مثل العاصمة الإدارية الجديدة والعلمين.
وفيما يخص الإنترنت، فقد تجاوز عدد مستخدمي الشبكة داخل مصر حاجز الـ82 مليون مستخدم عام 2024، بنسبة اختراق تفوق 70%، مدعومة بتغطية قوية لشبكات المحمول التي تخدم أكثر من 106 مليون خط نشط.
وتعمل الدولة حاليًا على إطلاق بوابات موحدة للخدمات الحكومية الرقمية، وتحقيق تكامل مع التطبيقات المصرفية والصحية والتعليمية في إطار رؤية شاملة للاقتصاد الرقمي.
رغم ضخامة الخسائر الناتجة عن حريق سنترال رمسيس، إلا أن طريقة تعامل قطاع الاتصالات مع الأزمة كشفت عن مدى نضج البنية التحتية الرقمية، وجدوى الاستثمارات الهائلة التي ضُخت في السنوات الأخيرة.
فالتحوّل من رد الفعل إلى المبادرة، ومن الاعتماد على مركزية الخدمة إلى توزيعها على محاور متعددة، بات سمة بارزة في استراتيجية الدولة الرقمية.
لقد شكّلت الأزمة نقطة فاصلة، ليس فقط في تقييم جاهزية الشبكة، بل في إعادة رسم أولويات الأمن السيبراني، وتوسيع شبكات الدعم الفني والطوارئ.
ومع إطلاق خدمات الجيل الخامس، فإن الحفاظ على المرونة، وتحديث خطط استمرارية الأعمال، وتحصين المواقع الحيوية سيظل التحدي الأبرز في المرحلة القادمة.
فالحريق كان درسًا قاسيًا، لكنه أيضًا شهادة حية على نضج قطاع آخذ في التقدم بخطى واثقة نحو مستقبل رقمي أكثر أمنًا واستدامة.