ملفات وحوارات

مليون فدان في السودان.. مصر ترسم خريطة جديدة للأمن الغذائي

تواصل مصر جهودها لتوسيع رقعتها الزراعية داخليًا وخارجيًا، ضمن استراتيجية طموحة تهدف إلى تحقيق الأمن الغذائي وتعزيز الصادرات، في ظل التحديات المناخية والمائية التي تواجه القطاع. وتتحرك الحكومة بخطط متكاملة تشمل استصلاح ملايين الأفدنة في الداخل، والتوسع في مشروعات زراعية مشتركة في دول الجوار، إلى جانب تطوير نظم الري الحديثة وتحسين إنتاجية الفدان باستخدام التكنولوجيا والبحث العلمي.

مليون فدان في السودان

في إطار سعيها لتأمين احتياجاتها من المحاصيل الاستراتيجية، تخطط مصر لزراعة ما يصل إلى مليون فدان في الولايات الشمالية بالسودان خلال ثلاث سنوات، مستفيدة من وفرة الأراضي والمياه هناك، شريطة استقرار الأوضاع الأمنية، بحسب ما كشفه مسؤول حكومي مصري لـ”الشرق”.

وأوضح المسؤول أن المرحلة الأولى من المشروع ستبدأ خلال العام المقبل على مساحة 250 ألف فدان، وتشمل زراعة محاصيل القمح والذرة وفول الصويا والأرز. وقد جاء الاتفاق خلال اجتماع بين وزير الزراعة المصري ونظيره السوداني في منتصف أكتوبر الماضي، حيث اتفق الجانبان على حشد القطاع الخاص المصري للمشاركة في المشروعات الزراعية بالسودان، على أن توفر الحكومة السودانية الأراضي اللازمة.

وطلب الجانب السوداني زيادة صادرات الأسمدة والتقاوي المصرية، بحيث ترتفع صادرات الأسمدة إلى ما بين 200 و250 ألف طن سنويًا، بجانب كميات كبيرة من تقاوي القمح والذرة. وتأتي هذه الخطوة في سياق سعي مصر إلى تعزيز حضورها الزراعي في القارة الإفريقية، التي تمتلك نحو 900 مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة، لا يُستغل منها سوى 50% فقط رغم توافر المياه، نتيجة ضعف البنية التحتية والاستثمارات الزراعية.

وتملك مصر بالفعل سبع مزارع نموذجية في دول إفريقية، بشراكات بين الحكومة والقطاع الخاص، بمساحة متوسطة قدرها 200 هكتار للمزرعة الواحدة، في إطار خطة تستهدف تحويل التعاون الزراعي الإفريقي إلى محور رئيسي للأمن الغذائي العربي والإفريقي المشترك.

الزراعة.. ركيزة الاقتصاد الوطني

يُعد قطاع الزراعة أحد أهم ركائز الاقتصاد المصري، إذ يمثل أكثر من 15% من الناتج المحلي الإجمالي، ويستوعب نحو 25% من القوى العاملة، بحسب بيانات وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي. كما يلعب دورًا محوريًا في دعم الاحتياطي النقدي الأجنبي عبر الصادرات الزراعية، التي بلغت 6.9 مليون طن من المنتجات الطازجة بقيمة تتجاوز 4.4 مليار دولار، إضافة إلى صادرات السلع الزراعية المصنعة التي وصلت إلى 5.1 مليار دولار، ليبلغ إجمالي الصادرات الزراعية 9.2 مليار دولار في 2024.

وخلال الأعوام الأخيرة، شهد القطاع طفرة غير مسبوقة في استصلاح الأراضي والتوسع الزراعي الأفقي والرأسي، حيث بلغت مساحة الأراضي الزراعية في مصر نحو 10.4 مليون فدان، بعد تنفيذ مشروعات كبرى مثل الدلتا الجديدة، ومستقبل مصر الزراعي، وتوشكى الخير، ومشروع المليون ونصف المليون فدان، إلى جانب تنمية مناطق شرق العوينات وسيناء وجنوب الوادي.

مشروعات عملاقة تعيد رسم الخريطة الزراعية

تعتبر مشروعات التوسع الأفقي من أبرز ملامح المرحلة الحالية، إذ جرى استصلاح مئات الآلاف من الأفدنة في مناطق جديدة تهدف إلى تقليل الفجوة الغذائية.
فقد انطلق مشروع مستقبل مصر الزراعي عام 2020 على مساحة تتجاوز 1.5 مليون فدان في محور الضبعة، وتم استصلاح أكثر من 700 ألف فدان حتى منتصف 2025، بهدف توفير محاصيل استراتيجية مثل القمح والذرة ودوار الشمس.
أما مشروع الدلتا الجديدة، فيعد أحد أكبر المشروعات الزراعية في تاريخ مصر الحديث، بمساحة تتخطى مليوني فدان، ويهدف إلى إنشاء مجتمعات زراعية صناعية متكاملة تعتمد على الري الحديث والطاقة النظيفة.
كما شهد مشروع توشكى الخير استصلاح أكثر من 500 ألف فدان وزراعتها بمحاصيل متنوعة، في مقدمتها القمح والبصل والتمور.

وبجانب التوسع الأفقي، تعمل الدولة على التوسع الرأسي من خلال تحسين الإنتاجية، إذ قال وزير الزراعة علاء فاروق إن الوزارة طورت أصناف تقاوي عالية الجودة ومقاومة للظروف المناخية، خاصة في محاصيل القمح والأرز والذرة، كما تم تعميم استخدام التكنولوجيا الحديثة والممارسات الزراعية الذكية، بما ساهم في رفع متوسط إنتاجية الفدان وخفض استهلاك المياه.

دعم المزارعين والتحول الرقمي في الزراعة

أكد وزير الزراعة أن الدولة دعمت المزارعين وصغار المنتجين من خلال منظومة الكارت الذكي للفلاح التي تضمن وصول الدعم لمستحقيه، إلى جانب تعزيز التمويل الزراعي عبر مبادرة البنك المركزي للمشروعات الصغيرة بفائدة لا تتجاوز 5%. كما تم رفع أسعار توريد المحاصيل الاستراتيجية لتحقيق هامش ربح عادل للفلاحين.

وفي مجال التحول الرقمي، أطلقت الوزارة المنصة الزراعية الرقمية الموحدة لتقديم الخدمات إلكترونيًا، وإدخال الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالمناخ وإدارة الموارد المائية، إلى جانب دعم تطبيقات الزراعة الدقيقة عبر الهاتف المحمول.

استصلاح الصحراء.. رهان المستقبل

وفقًا لتقارير دولية حديثة، يُقدّر حجم سوق الزراعة في مصر بنحو 5.37 مليار دولار عام 2025، ومن المتوقع أن يصل إلى 6.28 مليار دولار بحلول عام 2030 بمعدل نمو سنوي يبلغ 3.2%. وتُعد برامج استصلاح الأراضي الصحراوية والري الدقيق من أبرز روافع هذا النمو، إلى جانب الطلب العالمي المتزايد على المنتجات الزراعية المضادة للموسمية.

وتستهدف الدولة زراعة 4 ملايين فدان إضافية في الصحراء، في مشروعات تعتمد على المياه الجوفية من طبقة الحجر الرملي النوبي، وتستخدم تقنيات الري الحديث والمكننة الزراعية الموجهة نحو التصدير. وتُشير التقارير إلى أن استثمارات النهر الاصطناعي المخصصة لهذه المشروعات تتجاوز 5 مليارات دولار.

الري الحديث والطاقة الشمسية

تشهد مصر طفرة في نظم الري الدقيق والمضخات الشمسية، إذ تغطي هذه البرامج أكثر من 4 ملايين فدان، بما يحقق مكاسب في كفاءة استخدام المياه تصل إلى 20%. وأظهرت التجارب الحقلية أن المضخات الشمسية تخفض استهلاك المياه والطاقة بنسبة 28% مقارنة بالضخ التقليدي بالديزل، ما يسهم في خفض التكلفة ورفع الكفاءة التشغيلية للمزارع.

وفي هذا السياق، تنفذ وزارة الموارد المائية والري مشروعات كبرى لإعادة استخدام المياه، مثل محطة بحر البقر بطاقة 5.6 مليون متر مكعب يوميًا لاستصلاح 456 ألف فدان، ومحطة الدلتا الجديدة بطاقة 7.5 مليون متر مكعب يوميًا لاستصلاح 362 ألف فدان، ومحطة المحسمة بطاقة مليون متر مكعب يوميًا لاستصلاح 50 ألف فدان، إلى جانب إعادة استخدام 21 مليار متر مكعب من المياه سنويًا.

الزراعة التصديرية والممر الأخضر مع أوروبا

من جانب آخر، تستفيد الصادرات الزراعية المصرية من نوافذ الحصاد المضادة للموسمية، إذ تسد الحمضيات المصرية، خصوصًا البرتقال، الفجوات في السوق الأوروبية خلال فترات الجفاف في إسبانيا وإيطاليا. وتتيح اتحادات التسويق المتكاملة واتفاقيات الشراء طويلة المدى للمصدرين المصريين تحقيق أسعار تفضيلية.

ويدعم ما يسمى بـ “الممر الأخضر” بين مصر والاتحاد الأوروبي انسياب الصادرات الزراعية عبر تخفيض الحواجز الفنية والقيود الصحية، بفضل إنشاء الهيئة القومية لسلامة الغذاء ومنصات الدعم الفني مثل “صالح للسوق”، التي حسّنت مستويات الامتثال لقواعد الاتحاد الأوروبي، وقللت من حالات رفض الشحنات، وفتحت الباب أمام تمويل أوروبي لتطوير سلاسل التبريد واللوجستيات المتحكم بدرجة الحرارة.

البحث العلمي والابتكار الزراعي

أكد الدكتور عادل عبدالعظيم، رئيس مركز البحوث الزراعية، أن المركز استنبط أصنافًا جديدة من المحاصيل والخضر عالية الإنتاجية ومقاومة للأمراض، مثل “هجين 023” و”هجين 102″، التي تصل إنتاجيتها إلى 40 طنًا للفدان، وتتحمل النقل والتخزين. كما تعمل المراكز البحثية على تطوير أصناف مناسبة للزراعة في الأراضي الصحراوية وتحت الصوب الزراعية، بهدف زيادة العائد وتقليل الفاقد.

وفي إطار تطوير منظومة الإنتاج الحيواني، أشار الدكتور مصطفى الصياد، نائب وزير الزراعة، إلى أن المشروع القومي للبتلو موّل أكثر من 600 ألف رأس ماشية منذ إطلاقه عام 2017، باستفادة 50 ألف مربٍ، وتمويلات تجاوزت 9 مليارات جنيه، بنسبة سداد فاقت 95%، ما أسهم في خفض فاتورة استيراد اللحوم بنسبة 25% في بعض السنوات.

نحو منظومة متكاملة للأمن الغذائي

من خلال هذه المشروعات المتكاملة، تسعى الدولة إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي التدريجي من المحاصيل الأساسية وتقليل الاعتماد على الواردات، إلى جانب تعظيم القيمة المضافة عبر التوسع في التصنيع الزراعي وسلاسل الإمداد الحديثة.
ويؤكد مسؤولو وزارة الزراعة أن الخطط الحالية تمثل تحولاً هيكليًا في الاقتصاد الزراعي المصري، حيث تجمع بين التوسع الجغرافي والابتكار التقني، وتستند إلى شراكات قوية مع القطاع الخاص والدول الإفريقية والأوروبية، ما يضع الزراعة المصرية على طريق جديد نحو استدامة الأمن الغذائي وتحقيق عائد اقتصادي مستدام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *