
تشهد مصر في النصف الثاني من عام 2025 مرحلة فارقة في مسار قطاع الطاقة، بعد أن تحولت خلال فترة وجيزة من دولة مصدّرة للغاز الطبيعي إلى مستورد صافٍ له، في خطوة تعكس حجم التحديات التي تواجهها البلاد في إدارة مواردها الاستراتيجية ومزيج الطاقة بين الإنتاج والاستهلاك والالتزامات التعاقدية.
فبحسب البيانات الرسمية، أبرمت مصر هذا العام سلسلة اتفاقات لاستيراد الغاز المسال من شركات عالمية كبرى مثل شل وتوتال إنرچيز، لتأمين ما بين 120 إلى 160 شحنة حتى عام 2026، بقيمة إجمالية تتجاوز 8 مليارات دولار. وتأتي هذه الخطوة في ظل تراجع الإنتاج المحلي نتيجة تباطؤ عمليات الحفر في حقول البحر المتوسط، وانخفاض معدلات الضخ من حقل ظهر الذي كان ركيزة الاكتفاء الذاتي منذ عام 2018.
هذا التراجع دفع الحكومة إلى التحرك العاجل لتفادي أي اضطرابات في إنتاج الكهرباء أو الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، ما جعل الاستيراد خيارًا استراتيجيًا للحفاظ على استقرار الإمدادات وحماية النمو الصناعي.
وفي السياق الإقليمي، وقّعت مصر وإسرائيل اتفاقًا لتوريد نحو 130 مليار متر مكعب من الغاز عبر خط جديد يمر من معبر نيتسانا، ضمن صفقة تمتد حتى عام 2040 بقيمة 35 مليار دولار، وهو ما يعزز استقرار الإمدادات لكنه يضع القاهرة أمام معادلة دقيقة بين تأمين احتياجاتها بأسعار مقبولة والحفاظ على استقلال قرارها الاقتصادي وسط شبكة مصالح إقليمية متشابكة.
محليًا، تعمل الحكومة على توسيع قدرات محطتي الإسالة في إدكو ودمياط استعدادًا لاستعادة دور مصر كمركز إقليمي لتجارة وتسييل الغاز، بالتوازي مع تطوير البنية التحتية وخطوط الأنابيب العابرة للحدود. ومع ذلك، تبقى تكلفة الاستيراد عبئًا على الموازنة العامة، في وقت تسعى فيه الدولة إلى خفض العجز وتعزيز موارد النقد الأجنبي.
كما تتجه القاهرة لتسريع مشروعات الطاقة المتجددة في مناطق مثل بنبان والزعفرانة والسخنة الخضراء، بهدف تقليل الاعتماد على الغاز في توليد الكهرباء وتخصيص جزء أكبر من الإنتاج المحلي لتغطية احتياجات الصناعة.
وفي ظل التحديات العالمية بأسواق الطاقة، تواجه مصر اختبارًا حقيقيًا بين ضمان استيراد آمن ومستدام للغاز، والحفاظ على مكانتها كمحور إقليمي للطاقة في شرق المتوسط، بينما تواصل مفاوضاتها لتأمين إمدادات مستقرة بأسعار مناسبة.
في النهاية، لم يعد الغاز بالنسبة لمصر مجرد سلعة تصديرية، بل تحول إلى ركيزة أساسية لتحقيق التوازن الاقتصادي وضمان استقرار الصناعة والكهرباء، في إطار رؤية وطنية جديدة لإعادة رسم خريطة الطاقة وفق أولويات الأمن الاقتصادي والاستدامة.