
تسعى مصر بخطى استراتيجية لتحقيق الاكتفاء الذاتي في قطاع الدواء، أحد أكثر القطاعات حساسية وتأثيرًا على الأمن الصحي والاقتصادي للدولة، في ظل التحديات المتصاعدة التي تواجه سلاسل الإمداد العالمية وأسعار العملات الأجنبية.
ويأتي هذا التوجه في إطار رؤية شاملة لتقليل الاعتماد على استيراد المواد الخام الدوائية، والتي تمثل أكثر من 90% من مكونات صناعة الأدوية المحلية، وتعزيز القدرة الإنتاجية للقطاع عبر التصنيع المحلي الكامل، والانتقال من مرحلة التعبئة والتغليف إلى مرحلة تصنيع المواد الفعالة وغير الفعالة.
وفي هذا السياق، أطلقت الدولة مشروعًا صناعيًا نوعيًا لتوطين إنتاج المواد الخام الدوائية بمنطقة العين السخنة الاقتصادية، في خطوة تمهد الطريق لتقليص فاتورة الاستيراد وتحقيق أمن دوائي مستدام، يرتكز على بنية تحتية متطورة، ودعم حكومي مباشر، وتوجه نحو التصنيع الحيوي والتقنيات الحديثة.
ويمثل المشروع، الذي تقيمه شركة “ARAB API” على مساحة تقارب 97 ألف متر مربع وباستثمارات تبلغ 120 مليون دولار، تحولًا نوعيًا في بنية قطاع الصناعات الدوائية المصرية، الذي يعتمد في أكثر من 90% من إنتاجه على استيراد المواد الخام من الخارج.
يأتي المصنع في إطار خطة وطنية أوسع لتوطين صناعة المواد الخام الدوائية، والتي تعد من أهم حلقات التصنيع غير المتوفرة محليًا. وقال المهندس وليد جمال الدين، رئيس الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، في تصريحات صحفية، إن المشروع يمثل “نقلة نوعية لتعزيز الاكتفاء الذاتي في سوق الأدوية وتقليل فاتورة الاستيراد التي تُقدر بثلاثة مليارات دولار سنويًا”.
وبحسب بيانات هيئة الدواء المصرية، يبلغ عدد المصانع العاملة في القطاع نحو 172 مصنعًا تضم أكثر من 800 خط إنتاج، وتنتج ما يزيد عن 4 مليارات عبوة سنويًا. وقد حققت الصادرات الدوائية المصرية نموًا ملحوظًا بنسبة 65.6% خلال السنوات الخمس الماضية، لتصل إلى 447.1 مليون دولار بنهاية عام 2024، وسط تطلعات للوصول إلى 466.5 مليون دولار خلال السنوات الخمس المقبلة.
كما أعلنت الهيئة عن خطط مستقبلية لإطلاق “نظام وطني لتتبع الأدوية” خلال النصف الثاني من عام 2025، بهدف مواجهة ظواهر الغش والتهريب وضمان سلامة السلسلة الدوائية.
وتواجه الصناعة تحديات متراكمة أبرزها تقلبات أسعار الصرف وارتفاع تكاليف الشحن، ما دفع الحكومة لتخصيص قروض ميسرة بقيمة 7 مليارات جنيه لدعم المصنعين المحليين. كما شهدت السوق المحلية زيادة في أسعار أكثر من 1,600 صنف دوائي، لتخفيف أثر التضخم على قطاع الإنتاج.
وفي موازاة ذلك، تسعى الحكومة إلى تسريع عمليات الرقمنة، من خلال تبني أنظمة تتبع إلكترونية وحلول ذكاء اصطناعي، مثل تلك المستخدمة في بعض الصيدليات الذكية الحديثة، والتي تتيح تنبيهات فورية حول التفاعلات الدوائية وسجلات المرضى.
وتسعى مصر إلى التحول نحو التصنيع الحيوي للأدوية ذات القيمة العالية، لا سيما علاجات الأورام والمناعة، عبر جذب استثمارات أجنبية وشراكات مع شركات عالمية مثل “ساندوز” السويسرية. كما يجري حاليًا تطوير مشروعات بحثية في مدن علمية مثل “مدينة زويل” لتوفير قاعدة علمية تدعم الابتكار المحلي.
ورغم ما تحقق من خطوات ملموسة، لا تزال الصناعة تواجه تحديات كبيرة، أبرزها الاعتماد على المواد الخام المستوردة، وغياب قاعدة قوية للبحث والتطوير، وضعف الرقمنة الكاملة للمستشفيات والعيادات، ما يحد من تكامل نظم الذكاء الاصطناعي في صناعة الدواء.
تشير المعطيات الحالية إلى أن مصر تمضي بخطى واثقة نحو بناء صناعة دوائية متكاملة، تستند إلى إنتاج محلي حقيقي وتقنيات رقمية وشراكات دولية. وإذا ما استمرت السياسات الداعمة، فإن القطاع مرشح لأن يصبح أحد أعمدة الاقتصاد الصناعي الجديد، ليس فقط لتأمين الاحتياجات المحلية، وإنما لتحويل مصر إلى مركز إقليمي لتصدير الأدوية في الشرق الأوسط وأفريقيا.