في يونيو الماضي، كانت المرة الأولى التي يرد فيها الرئيس عبد الفتاح السيسي بشكل مباشر على الضغوط التي تتعرض لها البلاد من صندوق النقد الدولي، الذي يأبى إلا “مرونة أكبر لسعر صرف” الجنيه.
كانت كلمات الرئيس واضحة، حين قال إن “كثيرا من الناس يطالبون بمرونة سعر الصرف ونحن مرنون فيه، لكن عندما يتعلق الموضوع بالأمن القومي وأن ذلك سيضيع الشعب المصري فلا”، قبل أن يضيف “حتى لو هذا الكلام يتعارض مع…” دون أن يكمل عبارته، ما عدّهُ البعض إشارة إلى صندوق النقد.
وقال الرئيس حينها بنبرة حاسمة إن “هذه الدولة لن تتقدم إلى الأمام إلا بتحطيم فجوة الدولار” في وقت تعاني فيه مصر من اتساع الفجوة بين سعر الدولار في البنوك المصرية والسعر في السوق الموازية، تجاوز عشرة جنيهات.
غير أنّ مصر في حاجة ماسة إلى برنامج الإنقاذ البالغة قيمته 3 مليارات دولار، وفي الوقت ذاته تشعر بقلق إزاء أمنها القومي لما قد يسفر عنه تحرير سعر الصرف مجددًا بما يلقي بمزيد من الضغوط على المواطنين ويهدد بعدم الاستقرار، ولكنّ هذا الشرط “أساسي” بالنسبة إلى الصندوق، ما يجعل الدولة بين خيارين كلاهما صعب.
بين المطرقة والسندان
ولا تزال مصر تئن بين مطرقة صندوق النقد الدولي، الذي لم يُجرِ مراجعته الأولى ولا الثانية لبرنامج الدعم المقدّم لثاني أكبر مقترضٍ منه بعد الأرجنتين، نظراً للتباطؤ في تنفيذ متطلباته الخاصة بمرونة سعر الصرف وبيع أصول حكومية، وسندان تقارير البنوك العالمية التي تركز على “فجوة الدولار”، مطالبةً بتحريك سعر صرف العملة للمرة الرابعة خلال 17 شهراً.
في ديسمبر من العام الماضي، أقرّ صندوق النقد برنامجا مدّته 46 شهرًا لمصر، تبلغ قيمته 3 مليارات دولار، على أن يخضع هذا البرنامج لمراجعتين سنويا حتى منتصف سبتمبر 2026، بإجمالي 8 مراجعات.
وبعد إقرار ذلك البرنامج، حصلت مصر على شريحة أولى بقيمة 347 مليون دولار، وكان من المقرر أن تحصل على مبلغ مماثل بالقيمة نفسها في حال الانتهاء من المراجعة الأولى وكذلك من المراجعة الثانية، لكن مر موعد المراجعتين دون نتيجة، في وقتٍ كان على مصر إتمام هاتين المراجعتين في وقتهما للحصول على بقية شرائح قرضها من الصندوق.
المراجعة الأولى كان يُفترض أن تتم منتصف مارس الماضي، وهو ما لم يحدث، نظراً لتأخر الحكومة بتنفيذ برنامج الطروحات، وعدم اتسام سعر صرف الجنيه بالمرونة اللازمة، ثم تأجلت المراجعة الثانية التي كان موعدها منتصف سبتمبر، للأسباب ذاتها، حتى حذر صندوق النقد من أن الحفاظ على استقرار الجنيه سيؤدي إلى استنزاف النقد الأجنبي من الاقتصاد.
وقد أظهرت أحدث بيانات البنك المركزي تراجع صافي الاحتياطيات الأجنبية لمصر العام الماضي إلى أدنى مستوى منذ عام 2017، قبل أن يستقر في الأشهر الأخيرة عند 35 مليار دولار، لكنّه لا يزال أقل -بأكثر من الخُمس- من أعلى مستوى بلغه في 2020.
استنزاف الاحتياطيات الأجنبية
وردّاً على تصريحات الرئيس السيسي التي حملت انتقادًا واضحا لـ”شرط تعويم الجنيه”، قالت كريستالينا غورغييفا، مديرة صندوق النقد الدولي، إنّ “دعم العملة دون وجود ما يكفي من الاحتياطيات من العملات الأجنبية يؤدي إلى استنزاف هذه الاحتياطيات ويفاقم الأزمة، فكيف على مصر التعامل مع ذلك؟”.
وأضافت “المسألة ليست اقتصادية فحسب، لكنها متصلة بالاقتصاد السياسي أيضاً. من المهم اتخاذ الإجراءات الضرورية للحيلولة دون استنزاف الاحتياطيات من العملات الأجنبية، لأنه وبخلاف ذلك، يصبح الأمر أشبه بسكب الماء في وعاء مثقوب”. ومع ذلك، فإنها تشير إلى أن مراجعة الصندوق لبرنامج الإنقاذ البالغ 3 مليارات دولار في مصر تحرز تقدما، وربما يشهد انفراجة في الأسابيع المقبلة، موضحة أن “هناك خطوات كثيرة صائبة أقدمت مصر على اتخاذها”.
ومع أن الرئيس السيسي كان حازمًا فيما يتعلق برفض “مرونة سعر الصرف”، فقد قال خلال الأسابيع الماضية إنه لم يعُد يتبقى سوى خطوات محدودة لتجاوز المرحلة الحرجة التي تعيشها مصر، دون مزيد من التفاصيل.
ولا يزال قرار زيادة مرونة سعر الجنيه يقف حاجزا أمام إتمام المراجعتين مع صندوق النقد، بينما شبّه خبراء استجابة مصر لصندوق النقد بتحرير سعر الصرف “بالانتحار”، فقد خفضت الدولة بالفعل قيمة الجنيه ثلاث مرات، ليفقد نصف قيمته منذ أوائل 2022، مما أدى إلى ارتفاع معدل التضخم السنوي إلى مستوى قياسي بلغ 37.4%.
والمشكلة أنه ليس صندوق النقد الدولي وحده الذي يطالب بمرونة أكثر في سعر الصرف، بل هناك أيضا بعض المستثمرين الخليجيين الذين يطالبون بذلك في مفاوضاتهم الحالية مع الحكومة لشراء أصول حكومية بالعملة الأجنبية.
جرى تداول الجنيه خلال الأشهر الستة الماضية عند مستوى مستقر في البنوك المحلية عند حوالي 30.9 أمام الدولار، فيما جرى تداوله خلال آخر أسبوعين عند نحو 40 جنيها للدولار بالسوق الموازية، وهو ما دفع بنوكا عالمية ووكالات تصنيف إلى إصدار تقارير تنتقد بطء الحكومة في تنفيذ برنامج الطروحات، وعدم تحرير سعر صرف الجنيه لمجاراة سعره بالسوق الموازية.
كان آخره تلك البنوك “كريدي سويس” الذي استهل تقريره بعبارة “ما زلنا نشعر بالقلق وخيبة الأمل” تجاه عدم التقدم في تنفيذ الإصلاحات المرتبطة ببرنامج صندوق النقد الدولي، وتحديدا بيع حصص بالشركات المملوكة للدولة، ومرونة سعر صرف العملة المحلية، متوقِّعاً أن يتراوح الدولار ما بين 45 إلى 50 جنيهاً خلال 3 أشهر.
ومع ذلك توقع بنك “ستاندرد تشارترد”، الذي يتخذ من بريطانيا مقرا له، توقف مصر عن تعديل سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية حتى نهاية العام القادم ديسمبر 2024 ليظل عند مستوياته الحالية قرب 31 جنيها حتى نهاية العام.
انفراجة قريبة للمراجعات
ويعني عدم توصل مصر إلى اتفاق حول مراجعتي صندوق النقد أنها لن تحصل على المبالغ المطلوبة في الموعد المحدد، في وقت تعاني فيه من نقص الدولار وتحاول تدبير العملة الصعبة عبر عدة طرق منها قرض الصندوق. وفيما أعلن مدير الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، الدكتور جهاد أزعور، في مقابلة مع “الشرق الأوسط” أن هناك نيةً لدمج المراجعتين الأولى والثانية تسريعا لحصول مصر على دفعة جديدة، قال مسؤول لشبكة “CNN” إن الحكومة المصرية تسعى إلى الاتفاق مع الصندوق على تحديد موعد للمراجعتين نهاية الشهر الجاري، أو نوفمبر المقبل على أقصى تقدير.
وتأكيدًا لذلك، قال مصادر مطلعة لموقع “الشرق بلومبرغ” إن من المحتمل أن تزور بعثة من الصندوق مصر لبدء المراجعتين في نهاية شهر أكتوبر الجاري تقريبا، وإن من المقرر مناقشة عدة خيارات خلال الزيارة، بما في ذلك طريق التوصل إلى اتفاق على مستوى الخبراء بشأن المراجعة.
وأضاف المصادر أن إصلاح سياسة العملة سيتم بعد الانتخابات الرئاسية في ديسمبر، مما يمهد الطريق لموافقة مجلس إدارة صندوق النقد الدولي على المراجعة ومن ثم صرف شرائح القروض المتأخرة. وإذا نجحت المراجعة، فسينتج عن ذلك الإفراج عن 700 مليون دولار من شرائح القروض المؤجلة، والسماح بالوصول إلى صندوق المرونة بقيمة 1.3 مليار دولار، وربما يتبع ذلك أيضا تحفيز استثمارات خليجية كبيرة.
ما هي مطالب الصندوق؟
بينما لا يزال البرنامج المقدّر بثلاثة مليارات دولار صندوق النقد قال أشخاص مطلعون على المناقشات لـ”الشرق” إن مصر طلبت زيادة برنامج الإنقاذ الخاص بها إلى أكثر من 5 مليارات دولار، مع تعهدات بمعالجة مخاوف الصندوق بما في ذلك سعر الصرف.
لكنّ أيًّا كانت القيمة، فإن صندوق النقد الذي خفض توقعاته لنمو الاقتصاد المصري خلال العام المالي المقبل إلى 3.6 في المئة مقابل توقعات 4.2 في المئة هذا العام، ما زالت شروطه قائمة، وهي باختصار -وفق مديرة الصندوق- ثلاثة مجالات: أولاً، تحقيق سعر الصرف المرن وثانيا انسحاب الدولة من الأنشطة التي “ليس القطاع العام أفضل من يضطلع بها”، وثالثا تخصيص الدعم للفئات الأكثر هشاشة، وتقليص أنماط الدعم الذي يستفيد منه الأغنياء.
وتدين مصر لصندوق النقد الدولي بنحو 22 مليار دولار، بحسب البنك المركزي، وهي ثاني أكبر مقترض من الصندوق بعد الأرجنتين، وتواجه احتياجات تمويلية يقدرها “مورجان ستانلي” بنحو 24 مليار دولار في السنة المالية المنتهية في يونيو 2024، بما في ذلك مدفوعات للصندوق.
من بين الاقتراحات التي طُرحت خلال المحادثات الأخيرة، أن تتوصل مصر والصندوق إلى اتفاق على مستوى الخبراء بشأن المراجعة -وهي الخطوة الأولى في العملية- مما يشير إلى حدوث تقدّم، وفقاً لما قالته مصادر مطلعة، على أن يتم إصلاح العملة بعد الانتخابات الرئاسية، ما يمهد الطريق لموافقة مجلس إدارة صندوق النقد الدولي على المراجعة ومن ثم صرف شرائح القرض.
لكن الصندوق يسعى هذه المرة إلى شيء أقرب بكثير إلى المرونة الحقيقية -التي تعكس العرض والطلب- بما يتماشى مع نص الاتفاق الذي تم التوصل إليه في أكتوبر الماضي، بدلاً من تخفيض مُدار آخر لقيمة الجنيه، وفق المصادر.
ترشيد الإعفاءات الضريبية
كما يطالب الصندوق بترشيد الإعفاءات الضريبية والإلغاء التدريجي لدعم الوقود لتحسين أداء المالية العامة، إذ قال رود دي موج، نائب مدير قطاع المالية العامة في الصندوق، إن مصر تمنح الكثير من الإعفاءات الضريبية التي يمكن ترشيدها وأيضًا بجانب التحسينات الإدارية لتحسين فوائض مالية. وأوضح أن هناك تدابير أخرى لتعبئة الإيرادات من خلال إجراءات ضريبية، فهناك فرص لذلك من خلال القيمة المضافة وغيرها.
وعادت مصر مؤخرًا للتوسع في منح الإعفاءات الضريبية لتحفيز الاستثمار بعد سنوات من التخلي عن هذه السياسة ضمن برنامج الإصلاح المالي الذي طبقته في عام 2016. وأعلنت الحكومة تقديم إعفاء من الضرائب، عدا ضريبة القيمة المضافة، حتى 5 سنوات، للمشروعات الصناعية التي تستهدف صناعات استراتيجية، لتعميق الصناعة الوطنية، بشرط تنفيذ وتشغيل المشروعات طبقًا لحجمها في مدة أقصاها 3 سنوات.
إلى ذلك، بات التقدم أكثر وضوحا مؤخرًا فيما يخص بيع الأسهم المملوكة للدولة في الشركات المحلية، فقد أعلنت الحكومة في شهر يوليو أنها ستبيع أصولاً بقيمة 1.9 مليار دولار لشركات محلية والصندوق السيادي الواقع في أبوظبي “القابضة ” (ADQ). وفي وقت سابق من سبتمبر، باعت الدولة 30% من أكبر شركة تبغ في مصر إلى مستثمر إماراتي مقابل 625 مليون دولار.
وعلى الرغم من أن هذه الصفقات وغيرها ضمن قائمة تضم أكثر من 30 أصلًا تتطلع الدولة إلى بيعه، ستعزز السيولة الدولارية، فلن تكون كافية لتلبية الطلب على العملة بالكامل، لكنّ الحكومة -وفقا لمصادر مطلعة- تدرس خيارات متعددة لجمع الأموال الأجنبية، بما في ذلك مجموعة من الأوراق المالية الجديدة التي لم تُحدَّد بعد، والتي قد تكون جاذبة للمستثمرين.