تجارة وصناعة

مدى جاهزية المناطق الصناعية للتحول الرقمي

ثورة الصناعة الذكية في مصر

أطلقت مصر خلال السنوات الأخيرة واحدة من أكثر الخطوات طموحًا في تاريخ صناعتها الحديثة، سعيًا لتحويل المصانع التقليدية إلى كيانات ذكية ترتكز على أحدث تقنيات الثورة الصناعية الرابعة (Industry 4.0). ومع بزوغ هذه الرؤية، بات واضحًا أن التحوّل من التصنيع التقليدي إلى منظومة إنتاج تعتمد على الأتمتة، وإنترنت الأشياء، وتحليل البيانات الفوري لم يعد رفاهية، بل بات ضرورة اقتصادية لضمان التنافسية إقليميًا ودوليًا.
ويأتي هذا التوجه انسجامًا مع رؤية مصر 2030 الهادفة إلى رفع مساهمة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي من نحو 16% حاليًا إلى ما يتجاوز 20% خلال السنوات الخمس المقبلة، وفقًا لوزارة التجارة والصناعة المصرية.
وتشير البيانات الصادرة عن الهيئة العامة للتنمية الصناعية إلى أن مصر تضم أكثر من 150 منطقة صناعية موزعة على أنحاء الجمهورية، وأن الحكومة ضخت خلال الأعوام الخمسة الأخيرة ما يزيد عن 100 مليار جنيه في ترفيق وتطوير المناطق الصناعية، بهدف تهيئتها للبنية التحتية الرقمية اللازمة للتحول نحو نماذج المصانع الذكية.
ووفقًا لتقرير حديث صادر عن وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ارتفع حجم سوق الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في مصر من 3.2 مليار دولار عام 2017 إلى قرابة 6.2 مليار دولار في 2023، مع توقعات بتجاوزه حاجز 10 مليارات دولار بحلول عام 2025، وهو ما يعكس بيئة مشجعة لتوطين الصناعة الذكية.
في هذا السياق، أظهرت بيانات «منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية – يونيدو» أن معدل الأتمتة في مصر لا يزال متواضعًا مقارنة بجيرانها؛ إذ تُقدَّر كثافة الروبوتات الصناعية في مصر بأقل من 0.2 روبوت لكل 1,000 عامل، بينما تتجاوز النسبة نفسها 1 روبوت في تونس وتصل إلى أكثر من 3 روبوتات لكل 1,000 عامل في بعض المصانع التركية.
ضمن استراتيجية التحول، أطلقت وزارة التجارة والصناعة المصرية بالتعاون مع مركز تحديث الصناعة (IMC) وهيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات (ITIDA) مبادرة مؤشر جاهزية المصانع الذكية “Smart Industry Readiness Index (SIRI)” للمرة الأولى في ديسمبر 2024، وتُعد هذه الأداة أول مؤشر إقليمي معترف به عالميًا يساعد المصانع المصرية على تشخيص مدى جاهزيتها للتحول الرقمي وتحديد نقاط الضعف ومعالجتها.
صرّح المهندس محمد عبد الكريم، المدير التنفيذي لمركز تحديث الصناعة، بأن تطبيق مؤشر SIRI على خمس شركات محلية مثل قنديل للزجاج، وموبكا للأثاث، مثّل انطلاقة واقعية لوضع خارطة طريق للتحول الرقمي في التصنيع، مشددًا على أن المبادرة جزء من التزام الدولة بتحقيق هدف رفع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي من 16% إلى 20% بحلول عام 2027.
في موازاة ذلك، أعلنت الحكومة عن استثمارات تزيد على 2 مليار دولار لتعزيز البنية التحتية الرقمية للمناطق الصناعية، وتشمل هذه الخطط تمديد الألياف الضوئية في أكثر من 5,000 منشأة حكومية وتطوير مراكز بيانات متقدمة تخدم المجمعات الصناعية.
وبحسب تقرير «The Trade Adviser» الصادر في فبراير 2025، يُتوقع أن ينمو سوق تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في مصر من 23.6 مليار دولار هذا العام ليصل إلى أكثر من 53 مليار دولار بحلول عام 2030، بمعدل نمو سنوي مركب يلامس 17.6%. ويرى مراقبون أن هذا النمو يُمهّد لظهور مناطق صناعية ذكية مزودة بأنظمة إنترنت الأشياء وأنظمة المراقبة الذكية لإدارة الطاقة والموارد بكفاءة عالية.
وفي تجربة عملية توضح التحديات والإمكانات، أجرى فريق أكاديمي من جامعة قناة السويس دراسة ميدانية العام الماضي على مصنع تغليف متوسط الحجم بمحافظة بورسعيد، وكشفت الدراسة أن المصنع يعمل حاليًا ضمن مستوى Industry 3.0 باستخدام خطوط إنتاج شبه مؤتمتة، ولكنه يفتقر إلى نظام MES (نظام تنفيذ التصنيع) الذي يتيح التحليل الفوري للبيانات.
وعند تطبيق مفهوم “الفضاء الموحد Unified Namespace” الذي يربط المعدات والأنظمة بشكل لحظي، سجّل المصنع انخفاضًا كبيرًا في معدل الأعطال بنسبة 35%، وتحسنًا في الصيانة الاستباقية، مما خفض وقت التعطل بنسبة تجاوزت 20% في الربع الأول من العام محل الدراسة.
ويشير أحمد السويدي، رئيس مجلس إدارة السويدي إلكتريك، إلى أن التحول إلى Industry 4.0 لم يعد خيارًا: “المصنع الذكي بات ضمانة بقاء في السوقين المحلي والعالمي، والشركات التي لا تستثمر في الأتمتة وتحليل البيانات ستخسر قدرتها التنافسية في غضون سنوات قليلة”.
ومن جهته، أكد المهندس عمرو طلعت وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات أن مصر لا تركز فقط على الأتمتة، بل تبني قدرات بشرية بموازاة التطوير التكنولوجي، موضحًا في تصريحات سابقة أن الحكومة وقّعت اتفاقية شراكة مع شركة سيمنس لإنشاء مركز ابتكار Industry 4.0 في مدينة المعرفة بالعاصمة الإدارية الجديدة ليكون منصة تدريب للشركات والمهندسين ومهارات الجيل الجديد من التصنيع.
على صعيد البنية الفعلية، تضم مصر حاليًا أكثر من 147 منطقة صناعية بمساحة مرخصة تتجاوز 22.9 مليون متر مربع وفق بيانات وزارة التجارة والصناعة لعام 2023. ومع ذلك، فإن نسبة المناطق المهيأة حاليًا لتبني أنظمة المصانع الذكية لا تتجاوز 20%، بحسب تقديرات مركز تحديث الصناعة، ويعود السبب في ذلك إلى تحديات تتعلق بنقص الكوادر الفنية المدربة وارتفاع تكاليف التحديث الرقمي للمصانع الصغيرة والمتوسطة، والتي تمثل أكثر من 80% من إجمالي القطاع الصناعي في مصر.
يبقى السؤال المطروح: هل مصر جاهزة فعلاً للانتقال الكامل إلى منظومة صناعة ذكية بحلول عام 2030؟ الأرقام تُظهر أن الطريق ما زال طويلاً، لكن الزخم الحكومي، شراكات القطاع الخاص، وارتفاع الوعي بأهمية التحوّل الرقمي كلها مؤشرات إيجابية.
لعل الخطوة الحاسمة القادمة هي توجيه مزيد من الحوافز للمصانع المتوسطة والصغيرة، وتطوير برامج تدريبية تقنية واسعة النطاق لضمان ألا يبقى التحول مقتصرًا على المصانع الكبرى أو المناطق الصناعية الحديثة فحسب.
فالمصنع الذكي ليس مجرد روبوتات وآلات، بل فلسفة جديدة للصناعة تستند إلى عقل رقمي متكامل وموارد بشرية مؤهلة ومناطق صناعية مستعدة للتطور. ومع استمرار الجهود، قد يكون المستقبل أقرب مما يتوقعه البعض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *