تحتاج مصر إلى بضعة أشهر حتى تسجل خروجا كاملا من أزمتها الخانقة الحاليّة، ويعود اقتصادها إلى وضعه السليم، وفقا لتصريحات أدلى بها رئيس الوزراء مصطفى مدبولي.
تصريحات مدبولي جاءت على هامش إشرافه على الإفراج عن البضائع من ميناء الإسكندرية، حيث أكد أن الدولة المصرية عكفت خلال الفترة الفائتة على صياغة “روشتة” الخروج من الأزمة، والتي انتهت إلى توحيد سعر الصرف في البلاد، إذ لا يمكن لأي اقتصاد في العالم أن يعمل في وجود سعرين للصرف.
أزمة حادة
واجهت مصر في الشهور الماضية، هبوطا حادا في موارد النقد الأجنبي، أدى لارتفاع معظم أسعار السلع ونقص بعضها، وانتعشت السوق السوداء لأول مرة منذ سنوات، حيث تجاوز سعر الدولار في السوق السوداء ضعف سعره في البنك في بعض الأيام.
وجاء هذا الهبوط مدفوعا بتراجع عائدات السياحة، وتراجع تحويلات المصريين بالخارج بنحو الثلث خلال العام المالي 2022/2023 مقارنة بالعام السابق، بالإضافة إلى تقلص عوائد قناة السويس بشكل ملحوظ هذا العام، بسبب أزمة الملاحة في البحر الأحمر التي نتجت عن هجمات الحوثيين على بعض السفن.
في الوقت نفسه، كانت الدولة تستعد لسداد أكبر قدر من فوائد وأقساط الديون في تاريخها هذا العام، والذي قدره البنك المركزي ب 42.3 مليار دولار، في الوقت الذي بلغ فيه معدل الديون الخارجية أعلى مستوى له في تاريخ الدولة، مسجلا نحو 165 مليار دولار بداية العام الحالي.
لذلك كله، سعت الدولة إلى الحصول على دفعات متأخرة من القرض الذي اتفقت عليه في نهاية عام 2022 مع صندوق النقد الدولي، بالإضافة لتوسيع القرض، لكن صندوق النقد كان يصر على “سعر صرف مرن للجنيه”.
روشتة العلاج
ولصياغة روشتة الخروج من الأزمة “كان هناك شغل كثير مع كل الوزارات” بحسب رئيس الوزراء، الذي اتهم أذرع السوق السوداء في الخارج بتأجيج أزمة العملة الصعبة في البلاد، بشرائها من العاملين في الخارج، ما أدى إلى تراجع كبير في أحد أهم موارد النقد الأجنبي للدولة.
وتوصلت مصر إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي على زيادة قيمة قرضه من 3 إلى 8 مليارات دولار، على أن تطبق مصر مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية، أهمها الانتقال إلى نظام سعر صرف مرن، وخفض الإنفاق على مشروعات البنية التحتية، وتمكين القطاع الخاص.
يأتي هذا الاتفاق بعد عدة قرارات اتخذها البنك المركزي المصري خلال الساعات الماضية، أبرزها رفع سعر الفائدة بأعلى نسبة في تاريخه بواقع 600 نقطة أساس، ليرتفع سعري عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزي ليصل إلى 27.25%، 28.25% و27.75%، على الترتيب، والسماح لسعر الصرف أن يتحدد وفقًا لآليات السوق مما أدى إلى ارتفاع سعر الدولار إلى 49.47 جنيه للشراء، و49.57 جنيه للبيع، في البنك المركزي، كما وجه بفتح حدود استخدامات بطاقات الائتمان بالعملة الأجنبية.
وقال رئيس الوزراء “شغلنا الشاغل الفترة المقبلة مع التجار، والبنك المركزي ملتزم بتدبير العملة، الأولوية ستكون للسلع والأدوية والأعلاف والمنتجات البترولية والمواد الخام الخاصة بالصناعة لتدبير العملة، وأي شيء آخر سيأتي في ذيل الموضوع حتى لا يخرج من يستورد سلعًا استهلاكية ويقول إنه لم يتم تدبير العملة له”.
لماذا القرض؟
كانت مصر والصندوق قد توصلا في ديسمبر 2022 إلى اتفاق تحصل بموجبه القاهرة على قرض بقيمة ثلاثة مليارات دولار على مدار 46 شهرا، لكنّ الصندوق علّق صرف شرائح القرض العام الماضي بعدما ثبتت مصر سعر صرف الجنيه مقابل الدولار.
القرض الذي سيمنحه الصندوق للحكومة المصرية، يأتي بعد إعلانها في 23 فبراير الماضي، توقيع عقد مع شركة أبو ظبي التنموية القابضة لتطوير منطقة رأس الحكمة مقابل 24 مليار دولار، إضافة إلى تنازل دولة الإمارات عن 11 مليار دولار من ودائعها لدى مصر للاستثمار بمشروعات داخلية، وهو الإعلان الذي أعقبه تسلُّم مصر الدفعة الأولى من الصفقة بقيمة 10 مليارات دولار، في انتظار استلام الدفعة الثانية خلال شهرين.
لكن، ما سر إصرار الدولة على الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، رغم توفر السيولة النقدية في الفترة الأخيرة لا سيما من صفقة رأس الحكمة؟
المتحدث باسم مجلس الوزراء، محمد الحمصاني، أجاب عن هذا السؤال بالقول إن قرض الصندوق يهدف إلى دعم جهود الدولة في عملية الإصلاح، موضحا أن “القرض ليس في قيمته بل في مغزاه، والرسالة التي يوجهها إلى العالم، والتوقيع مع صندوق النقد شهادة مهمة جدا للاقتصاد المصري أمام العالم ومؤسسات التمويل الدولية وكافة الشركاء الدوليين، بأن الدولة المصرية قادرة على تجاوز التحديات الراهنة، وأن صندوق النقد الدولي يدعم الإجراءات الإصلاحية المصرية”.
واعتبر المتحدث أن “التعامل مع صندوق النقد الدولي رسالة مهمة للمستثمر الأجنبي، لأنّ المستثمر لن يتشجع على الاستثمار والقدوم إلى مصر في ظل غياب تلك الشهادة المهمة، فالكل ينتظر توقيع مثل هذا الاتفاق لكي يطمئن إلى أن الدولة المصرية والأوضاع الاقتصادية سيتم تجاوزها، بالتالي القيمة الأساسية لتوقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في الحصول على تلك الرسالة المهمة التي تدعم جهود الإصلاح المصري”.
من جهته، اعتبر الخبير الاقتصادي الدكتور وليد جاب الله أن قرض صندوق النقد مهم، فالاتفاق مع الصندوق بمثابة إعلان عن توجهات الدولة المصرية وخطة على المدى المتوسط، بما يؤدي إلى فتح الآفق أمام الاقتصاد المصري ودعم تصنيف مصر الائتماني وجذب المزيد من الاستثمارات.
وشدد على أن الحصول على 8 مليارات دولار من الصندوق و35 مليار دولار قيمة مشروع تطوير مدينة رأس الحكمة بالشراكة مع الإمارات، بالإضافة إلى اتفاقيات الاستثمار المباشر كل ذلك سوف يساعد على تقويم مسار الاقتصاد المصري وتحقيق الاستقرار النقدي.
“لكن يتبقى مسار الإصلاح الهيكلي هو الأهم وأصبح حتميا المضي فيه بحيث تكون هناك استراتيجية كلية للاقتصاد المصري تنظم العمل بين المؤسسات وتنظم الإدارة الاقتصادية”، بحسب الخبير.
أخطاء الماضي
في عام 2016، واجهت مصر أزمة اقتصادية مشابهة، حيث انخفض احتياطي العملات الأجنبية بشكل حاد، فلجأت الدولة للاقتراض من صندوق النقد، وخفضت قيمة الجنيه أمام العملات الأجنبية، حيث ارتفع سعر صرف الدولار من 8 جنيهات إلى 18 جنيها.
لكنّ هناك فارقا بين المرتين، فتخفيض قيمة الجنيه مختلف هذه المرة، لأن هناك عوامل مساعدة لإنجاحه، مثل الاستثمارات الخليجية الموعودة، والعوائد بالعملات الأجنبية من مشروع رأس الحكمة، بالإضافة لصندوق النقد الدولي، بحسب ما يقوله الخبير الاقتصادي خالد رمضان الذي يؤكد أن نجاح الخطوة مرهون بألا تعيد الحكومة “أخطاء الماضي”، وأن عليها ألا تتوسع في المشروعات التي تستنفد الدولار دون أن يكون لها مردود اقتصادي.
ويعتقد رمضان أن القضاء على السوق السوداء لتدول الدولار سيستغرق وقتا، موضحا أن “هناك عدة أسعار للدولار في الأسواق، هناك سعر لسوق الذهب وسعر رسمي، وسعر للسوق السوداء، وكلها ستظل موجودة حتى يتوفر الدولار بالسعر الرسمي في البنوك، وتعود الثقة بين المستثمرين والقطاع المصرفي، وتزال العوائق أمام تدبير الدولار لعمليات الاستيراد”.