
في مشهد يجسد عمق العلاقات الاستراتيجية بين القاهرة وبروكسل، استضافت العاصمة البلجيكية خلال الأسبوع الجاري القمة الأولى لقادة الاتحاد الأوروبي ومصر، بعد نحو 19 شهرًا من إطلاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الجانبين في مارس 2024، وهي الشراكة التي أرست إطارًا جديدًا للتعاون يقوم على التنمية والاستقرار المتبادل والتكامل الاقتصادي في ضوء التحولات العالمية الراهنة.
القمة، التي حضرها الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى جانب رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، جاءت -بحسب بيانات المفوضية الأوروبية- فرصة محورية لتحويل الطموحات المشتركة إلى نتائج ملموسة، وتفعيل جميع ركائز الشراكة الست، التي تشمل العلاقات السياسية، والاستقرار الاقتصادي، والتجارة والاستثمار، والهجرة والتنقل، والطاقة والمناخ، ورأس المال البشري.
وأكدت المفوضية الأوروبية في بيان رسمي أن مصر تُعد شريكًا استراتيجيًا رئيسيًا للاتحاد الأوروبي، لما تتمتع به من موقع جغرافي فريد ودور محوري في استقرار منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وأضافت أن القمة تمثل فرصة ممتازة لتوسيع التعاون ومواجهة التحديات المشتركة، بما في ذلك قضايا الأمن والهجرة والطاقة، وتعزيز التنمية المستدامة.
من جانبه، قال رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا إن القمة تركز على “تعميق الشراكة السياسية والاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي ومصر، وتعزيز التعاون الثنائي لدعم السلام والاستقرار والازدهار المشترك”. كما لفت إلى أن المناقشات تناولت الملفات الدولية الأكثر إلحاحًا، وفي مقدمتها تطورات الأوضاع في الشرق الأوسط، والحرب في أوكرانيا، ومستقبل التعددية والتجارة العالمية.
وفي كلمته خلال الاجتماع رفيع المستوى بين الجانبين، أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي أن زيارته إلى بروكسل تأتي في أعقاب “التطور النوعي الذي شهدته العلاقات المصرية الأوروبية خلال الفترة الأخيرة”، مشيرًا إلى تقديره العميق لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين على دورها البارز في دفع مسار التعاون المشترك إلى الأمام.
وقال الرئيس السيسي إن المرحلة الحالية تتطلب “رؤية أوسع وطموحًا أكبر في إطار الشراكة بين مصر والاتحاد الأوروبي”، خاصة في ظل التطورات غير المسبوقة التي تشهدها المنطقة. وأضاف: “مصر اليوم تمثل فرصة حقيقية وملموسة أمام مجتمع الأعمال الأوروبي، وليست مجرد شريك قريب جغرافيًا”، مؤكدًا أن الدولة المصرية تمتلك مقومات اقتصادية واستثمارية كبيرة تؤهلها لأن تكون مركزًا إقليميًا للتعاون بين أوروبا وإفريقيا.
وفي هذا السياق، صرح الخبير الاقتصادي الدكتور حسام الغايش بأن القمة تعكس “أزهى عصور العلاقات بين القاهرة وبروكسل”، مشيرًا إلى أن انعقادها يمثل محطة فارقة في مسار الشراكة، ويعزز التعاون في مجالات الاقتصاد والطاقة والاستثمار.
وأوضح في تصريحات صحفية، أن صرف الشريحة الثانية من منحة الاتحاد الأوروبي لمصر بقيمة 4 مليارات يورو يمثل “خطوة استراتيجية تجسد الثقة في الاقتصاد المصري، وتؤكد التزام الشركاء الأوروبيين بدعم مسيرة الإصلاح والنمو”. وأضاف أن توقيت الصرف في ظل تحديات اقتصادية عالمية يعكس “شهادة نجاح جديدة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي المصري”، ويبعث برسالة طمأنة للمستثمرين الدوليين حول متانة الاقتصاد الوطني.
وأشار الخبير إلى أن هذه الخطوة تعزز من جاذبية السوق المصرية أمام الاستثمارات الأوروبية في قطاعات الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر والبنية التحتية المستدامة، وهي المجالات التي تتوافق مع رؤية مصر للتحول إلى اقتصاد أخضر قائم على التكنولوجيا والابتكار.
وتُعد حزمة التمويل والاستثمار الأوروبية، التي تبلغ 7.4 مليار يورو للفترة من 2024 حتى 2027، إحدى أهم مخرجات الشراكة الاستراتيجية، إذ تشمل تمويلات لدعم الاستقرار الاقتصادي، والاستثمار في البنية التحتية والطاقة النظيفة، وتعزيز سلاسل القيمة الصناعية.
وتشير البيانات إلى أن الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأول لمصر، حيث استحوذ عام 2024 على نحو 22% من إجمالي التجارة المصرية، وبلغت قيمة التبادل التجاري بين الجانبين نحو 32.5 مليار يورو، منها 19.9 مليار يورو صادرات مصرية، مقابل 12.6 مليار يورو واردات.
وفي السياق نفسه، أوضح بيان المفوضية الأوروبية أن التعاون بين الجانبين يشهد زخمًا متزايدًا بفضل إنجازات ملموسة، من بينها مؤتمر الاستثمار المشترك عام 2024، وإطلاق منصة الاستثمار المصرية الأوروبية في 2025، إلى جانب انضمام مصر إلى مبادرة “أفق أوروبا” المعنية بالابتكار والبحث العلمي.
وفيما تسعى القاهرة إلى تعظيم المكاسب الاقتصادية من الشراكة، كشف مسؤول أن مصر تستهدف زيادة صادراتها لدول الاتحاد الأوروبي بنسبة تتراوح بين 12 و14% لتصل إلى 14 مليار يورو بنهاية العام الجاري، في ظل سعيها إلى تعزيز مكانتها كأحد أكبر شركاء الاتحاد التجاريين.
وأوضح المسؤول أن الاتحاد الأوروبي يستحوذ على 27% من تجارة مصر الخارجية، مشيرًا إلى أن استثماراته تمثل نحو 32% من إجمالي أرصدة الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر، بما يعادل 14.1 مليار دولار حتى فبراير 2025، فيما يبلغ عدد الشركات الأوروبية العاملة في السوق المصرية نحو 8112 شركة، وفقا لموقع الشرق (بلومبرغ).
وأشار إلى أن القاهرة تتابع باهتمام تطبيق آلية تعديل حدود الكربون (CBAM) الأوروبية مطلع العام المقبل، والتي قد تؤثر على صادرات الصناعات كثيفة الانبعاثات، مثل الحديد والأسمنت والألومنيوم، مؤكدًا أن الحكومة تعمل على مواءمة التشريعات الصناعية مع المتطلبات البيئية الجديدة للحفاظ على تنافسية الصادرات المصرية.
وعلى هامش القمة، انعقد حدث رفيع المستوى بعنوان “تنفيذ الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الاتحاد الأوروبي ومصر: تسريع الاستثمار والتحول الصناعي والابتكار”، بمشاركة كبار القادة السياسيين وممثلي مؤسسات التمويل ورواد الأعمال من الجانبين.
وشهد الحدث -وفق بيان المفوضية الأوروبية- مناقشة فرص إقامة شراكات استراتيجية في القطاعات التكنولوجية والصناعية عالية القيمة، وتعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص لتطوير منظومة ابتكار تربط أوروبا ومصر، وتفتح الطريق أمام مستقبل أكثر تنافسية واستدامة.
كما تناولت النقاشات الإصلاحات التنظيمية المطلوبة لجذب الاستثمارات طويلة الأجل، وبناء اقتصاد قادر على المنافسة عالميًا، قائم على المعرفة والتكنولوجيا النظيفة.
وفي جانب آخر من القمة، حظي ملف الهجرة والتنقل باهتمام خاص من الجانبين، حيث أكد محمد أنيس، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع، أن الاتحاد الأوروبي يرى في مصر “شريكًا محوريًا في إدارة ملف الهجرة غير الشرعية”، مشيرًا إلى الدور الفاعل للقاهرة في “خفض تدفقات الهجرة عبر المتوسط بما وفر على أوروبا مليارات اليورو”.
وأوضح أن المرحلة المقبلة ستشهد بحث آليات تنظيم تصدير العمالة المصرية المؤهلة إلى أوروبا “على غرار النموذج المطبق في دول الخليج”، معتبرًا أن هذه الخطوة تمثل “رافعة حقيقية للاقتصاد المصري”، عبر دعم سوق العمل الأوروبي وزيادة التحويلات المالية لمصر.
وفي تطور مهم يعكس مسار التعاون الاستراتيجي، أعلن محمد سعده، سكرتير عام اتحاد الغرف التجارية، أن عقد مشروع الربط الكهربائي بين مصر وأوروبا عبر اليونان تم توقيعه خلال القمة، مشيرًا إلى أن هذا المشروع “يمثل نقلة نوعية في التعاون بمجال الطاقة ويعزز مكانة مصر كمركز إقليمي لتبادل الكهرباء والطاقة النظيفة”.
وأضاف سعده أن “مصر مؤهلة لتكون نافذة رئيسية لإفريقيا في جذب الاستثمارات الأوروبية”، موضحًا أن أوروبا تنظر إلى القاهرة اليوم بإيجابية كبيرة، وأن المرحلة المقبلة “ستشهد انطلاقة جديدة في حجم ونوعية الشراكات في مجالات الصناعة والطاقة والخدمات اللوجستية”.
تعكس مخرجات قمة بروكسل، وفق مراقبين، رسالة ثقة أوروبية واضحة في متانة الاقتصاد المصري، بعد سلسلة من الإصلاحات التي عززت الاستقرار المالي والنقدي، وخفضت معدلات التضخم، ودفعت بمعدلات النمو في قطاعات حيوية مثل الطاقة والتجارة والخدمات.
كما تمثل القمة، وفق الخبراء، بداية مرحلة جديدة من الشراكة المتكاملة بين مصر والاتحاد الأوروبي، قوامها المصالح المشتركة والاستثمار المتبادل بدلاً من المساعدات التقليدية، ما يعزز مكانة القاهرة كقوة اقتصادية إقليمية وشريك موثوق في تحقيق التنمية والاستقرار في جنوب المتوسط.
وبينما تتجه الأنظار إلى نتائج التنفيذ العملي لما تم الاتفاق عليه في بروكسل، تبدو مصر ماضية بثقة نحو ترسيخ موقعها كمحور رئيسي في منظومة التعاون الأوروبي الإفريقي، وكجسر اقتصادي واستثماري بين القارتين، مستندة إلى رؤية طموحة لبناء شراكة طويلة الأمد قائمة على التنمية المستدامة والتكامل الإقليمي.