تجارة وصناعة

قطارات سياحية تربط التنمية الثقافية بالصناعة

تواصل الدولة المصرية دفع عجلة التوسع في شبكة السكك الحديدية الحديثة بهدف تعزيز التنمية الاقتصادية والثقافية معًا، حيث تفتح خطة القطار الكهربائي السريع الباب واسعًا أمام ربط الخطوط السياحية بالمناطق الحرفية، ما ينعكس مباشرة على الصناعات الثقافية المحلية وفرص العمل المرتبطة بها.
تشهد مصر حاليًا تنفيذ ثلاثة خطوط رئيسية ضمن مشروع القطار الكهربائي السريع بطول يقارب ألفي كيلومتر وبإجمالي ستين محطة موزعة بين الساحل والصعيد. ويُعد الخط الثاني الذي يمتد من أكتوبر إلى أسوان وأبو سمبل، بطول يتجاوز 1100 كيلومتر ويضم ستًا وثلاثين محطة في محافظات مثل الأقصر وقنا وأسوان وسوهاج والمنيا، محورًا بالغ الأهمية في ربط المواقع الأثرية بالصناعات الحرفية. ومن المنتظر بدء التشغيل التجريبي لهذا الخط مطلع 2026، وفق تصريحات وزير النقل الفريق كامل الوزير، الذي أكد أن الشبكة ستوفر سعة نقل يومية تصل إلى 1.3 مليون راكب بجانب طاقة شحن تتجاوز عشرة آلاف طن بضائع، ما يعزز الترابط بين المواقع التاريخية والمراكز الإنتاجية.
يأتي ذلك في وقت سجّل فيه القطاع السياحي المصري أرقامًا مشجعة، إذ بلغ عدد السائحين الوافدين خلال عام 2024 نحو 15.7 مليون سائح، محققين إيرادات سياحية تُقدّر بنحو 14.1 مليار دولار، وهي أرقام تعكس عودة قوية بعد الجائحة. وتُظهر الإحصاءات أن النسبة الأكبر من هؤلاء السياح يقصدون المواقع الثقافية في الأقصر وأسوان، وهو ما يزيد من أهمية تطوير خطوط النقل الحديثة لخدمة هذا التدفق.
وتتفق رؤى الخبراء مع هذه المؤشرات، إذ يشددون على أن تيسير الوصول إلى مراكز الصناعات اليدوية عبر قطارات حديثة يضاعف من قدرة صناع التذكارات على تسويق منتجاتهم مباشرة للسياح. وفي هذا السياق، تشير تقديرات اليونسكو إلى أن عدد الحرفيين المسجلين ضمن مبادرة “Creative Egypt” ارتفع من سبعة آلاف إلى أكثر من عشرة آلاف وخمسمائة حرفي خلال السنوات الأخيرة، ما أسهم في تنشيط فرص العمل وخاصةً بين الشباب والنساء.
وتسعى الإستراتيجية الوطنية للصناعات اليدوية إلى تعزيز هذا النمو عبر خطة طموحة للفترة من 2025 إلى 2030، تستهدف رفع قيمة صادرات الحرف اليدوية إلى 600 مليون دولار مع توفير نحو 120 ألف فرصة عمل جديدة، وهو هدف يرتبط بشكل وثيق بمدى قدرة شبكة النقل على ربط الإنتاج بالأسواق السياحية في المدن التاريخية.
ويظهر الأثر المباشر لهذا الربط في أسواق مثل الأقصر وأسوان، حيث يعتمد عشرات الحرفيين على الزائرين القادمين عبر القطارات، خصوصًا القطارات الليلية التي تصل من القاهرة، لبيع منتجاتهم من السجاد اليدوي والفخار والتحف التراثية. ويؤكد بعضهم أن قرب محطات القطار من مناطقهم رفع مبيعاتهم بنسب تصل إلى 15% في مواسم الذروة، رغم ما يواجهونه أحيانًا من ضعف التنسيق التسويقي المؤسسي.
وتدعم وزارة النقل هذا التوجه بخطط واضحة، إذ أعلنت مؤخرًا عن إطلاق قطار سياحي فاخر يضم 15 عربة بديكور مستوحى من تاريخ مصر، ليخدم المسارات الثقافية الكبرى وفق معايير دولية. كما كشفت الهيئة عن رؤيتها لتعزيز التكامل بين مواقع مثل أهرامات الجيزة ومنتجعات البحر الأحمر، بما يقدّم للسائح برنامجًا ثقافيًا متنوعًا تتكامل فيه السياحة الترفيهية مع الثقافية.
وفي المقابل، تلفت مصادر بجهاز تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة إلى أن تمويل مبادرات الحرف اليدوية سجل تراجعًا إلى 40 مليون جنيه في 2023، مقارنةً بنحو 73.4 مليون جنيه في 2022، ما يستدعي التوسع في برامج التمويل والقروض الميسرة ومضاعفة جهود التدريب والتسويق. وترى الجهات المختصة أن دمج نقاط بيع للحرفيين داخل محطات القطارات السياحية الكبرى يمثل خطوة حيوية لتثبيت هذا القطاع ضمن منظومة الاقتصاد المحلي.
وبحسب التقديرات الرسمية، تتجاوز الطاقة الاستيعابية لشبكة السكك الحديدية المصرية 800 مليون راكب سنويًا، وتعد خطوط مثل القاهرة – الأقصر – أسوان ركيزة أساسية في هذا الربط، لا سيما مع استمرار عمل القطارات الليلية الفاخرة وخدمات “Abela” التي تسهم في تسهيل تنقل السياح بين الشمال والجنوب.
ويربط المحللون بين تطوير النقل السككي وبين القدرة على رفع معدل تصدير الحرف اليدوية الذي بلغ 250 مليون دولار في 2022، مع إمكانيات نمو تتجاوز هذا الرقم إذا ما توافرت البنية التحتية والخدمات اللوجستية الملائمة. ويُضاف إلى ذلك الرؤية الأشمل التي طرحها الدكتور فاروق الباز عبر مشروع ممر التنمية، الذي يستهدف فتح شريان بطول 1200 كيلومتر من الإسكندرية حتى أبو سمبل، لربط مليون فدان جديدة واستيعاب 20 مليون نسمة، وهو ما يتقاطع فعليًا مع مسارات القطارات السريعة الجاري تنفيذها.
وتبقى الصورة الأوسع مرهونة بقدرة الحكومة على الربط بين مشروعات النقل والتنمية الثقافية بشكل متكامل، يضمن للحرفيين مساحة تسويق مستدامة ويحقق عائدًا اقتصاديًا ملموسًا. ومع اكتمال خطوط القطارات الحديثة، يُتوقع أن تصبح مراكز الصناعات التراثية في الأقصر وقنا وأسوان محطة رئيسية ليس فقط للسائح، بل أيضًا للاستثمار في منتجات تحمل روح التاريخ وتحفظ الحرف التقليدية من الاندثار، لتستمر مساهمتها في الاقتصاد المصري بخطة واضحة للتصدير تليق بمكانة مصر الثقافية في المنطقة والعالم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *