مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بعد فوزه ضد منافسته الديمقراطية كامالا هاريس، بمنصب الرئاسة لـ 4 سنوات قادمة، يظهر على ساحة الخليجية عدد من القضايا الاقتصادية ذات الارتباط بالتوجهات الخاصة بسياسات الإدارة الأميركية التي تبناها ترامب خلال حملاته الانتخابية.
ويأتي فوز ترامب في ظل اكتساح جمهوري لمجلس الشيوخ وكتلة قوية في مجلس النواب مع توجهات صريحة في قضايا تهمّ دول الخليج العربية بشكل مباشر، كالنفط وأسعاره وارتباطاته البيئية والمناخية، وبشكل غير مباشر الضغط على دول الإقليم لرفع مستويات الإنفاق العسكري واحتمالية عودة الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وحتى الأثر السلبي لتصاعد اتجاهات اليمين المتشدد.
ويعد ملف النفط واحدا من أهم الملفات الاقتصادية التي تهم ترامب ومنظومته الانتخابية، فهو داعم أساسي لزيادة إنتاج النفط الأحفوري، سواء التقليدي أو الصخري، بما يسهم في تعزيز عمليات شركات الطاقة الأميركية وخفض أسعار البنزين على المستهلكين، أي خفض أسعاره عالميا، مع إمكانية العمل لإعادة تدفق أكبر للنفط الروسي إلى الأسواق، والتي فرضتها الحرب الروسية – الأوكرانية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحزب الجمهوري غالبا ما يكون داعما لتبنّي ما يعرف بقانون «نوبك»، الذي يعتبر منظمة أوبك احتكارية تتحكم في أسعار وكميات النفط العالمية، مما قد يفتح الباب لفرض عقوبات وغرامات على المنظمة ودولها.
ويعتبر ترامب من أشد المناهضين لقضايا المناخ، ويرى أنها “أوهام بيئية ومعركة مع طواحين الهواء”، وقد سبق إبان رئاسته أن انسحب من اتفاقية باريس للمناخ، وهو ما يرجّح إلى حد كبير إنهاء أو تقليص ضخم لخطة الرئيس السابق جو بايدن التي أطلقها عام 2022 لمكافحة التغيّر المناخي بقيمة 370 مليار دولار، من خلال تقديم حزمة حوافز مالية وضريبية للشركات والمصانع والمستهلكين الذين يتخلون عن استخدامات الوقود التقليدي – كالنفط والغاز وغيرهما – لمصلحة إنتاج واستخدام الطاقة النووية والطاقة المتجددة، وهي توجهات لن تكون لها أولوية، خصوصا في الإنفاق الفيدرالي لدى الجمهوريين، وتحديدا في الجناح الأكثر تشددا الذي يمثله الرئيس العائد ترامب، الذي يميل إلى دعم وتحفيز شركات النفط على رفع الإنتاج والتوسع في الاستكشاف.
وغالبا ما ستفضي هذه السياسات إلى ارتفاع في معروض النفط العالمي، وبالتالي انخفاض أسعارها المدعومة حاليا بعوامل غير مستدامة، كالحرب بين روسيا وأوكرانيا أو العدوان الإسرائيلي على غزة وجنوب لبنان، والقلق من احتمال توسعها لتشمل مناطق أخرى في الشرق الأوسط، وهنا تعود الذاكرة إلى عهد ترامب الأول، عندما أشعل الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، أي أكبر اقتصادين في العالم، اللذين يشكلان معا 40% من اقتصاد العالم.
وهو ما يشير إلى احتمالية الضغط على النمو الاقتصادي العالمي، فضلا عن نمو الاقتصاد الصيني الذي يُعد أكبر مستهلكي النفط في العالم، مما يؤدي إلى المزيد من انخفاض الأسعار عالميا، نتيجة تراجع الطلب في الصين بالتوازي مع احتمالات ارتفاع الرسوم على الصادرات، فدول مجلس التعاون الخليجي استوردت من الصين في النصف الأول من العام الحالي بضائع بقيمة 80 مليار دولار، وفرض الرسوم على الصادرات سينعكس تضخما في أسعار السلع بمنطقة الخليج.
وبالأخذ بعين الاعتبار أن الحروب التجارية ترفع من حالة عدم اليقين في الاقتصاد العالمي، وبالتالي تخفض وتيرة تدفق الاستثمارات والأموال الأجنبية للأسواق الصغيرة أو حتى الناشئة إلى الأسواق الأكبر أو الأكثر تحمّلا للصدمات، مما يعني تضرر اقتصاديات دول الخليج من آثار أي حرب تجارية محتملة يقودها ترامب بين الولايات المتحدة والصين.
ومع أن أي رئيس للولايات المتحدة لا يملك التدخل المباشر في السياسة النقدية للمجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي، إلا أنه غالبا ما يمارس ضغوطه، بل وهجومه أحيانا على “الفدرالي”، لحثه على خفض أكبر للفائدة، وهو أمر سينعكس بشكل مباشر حال تحققه على سياسات جميع البنوك المركزية الخليجية النقدية عدا الكويت، المرتبطة بسلّة عملات وليس فقط الدولار.
وهذه الضغوط لو نجحت، فإنها بالمقابل ليست عملية سهلة مرتبطة فقط بضغوط ترامب، وذلك بحسب صحيفة الجريدة، لكونها ستشعل المعركة مجددا مع التضخم في الولايات المتحدة وبقية دول العالم ومنها منطقة الخليج العربي. والتوجهات اليمينية المتشددة في العالم تعيش درجة من الانتعاش بكل ما تحمله، ليس فقط من مغالاة أو نزعات متطرفة في الهيمنة أو إشعال الحروب، بل أيضا في تبنّي سياسات اقتصادية منفلتة تجاه الخصخصة غير المنضبطة ومناهضة الهجرة و«الحمائية» التجارية، وحتى في مسائل التعامل مع الفقر.
ومع التأكيد على وجود احتمال بألا يكون ترامب في رئاسته الثانية مماثلا في سياساته لرئاسته الأولى، فإن أمام دول الخليج تحدي التعامل مع ما يمكن أن تخلفه سياسات ترامب على النفط وتحولات الطاقة والتجارة العالمية والاستثمارات والإنفاق العسكري، من خلال وجود مشروع خليجي تتبناه دول مجلس التعاون بشكل جماعي لا بشكل فردي، كما هي الحال لزيادة درجة مرونتها تجاه التقلبات الاقتصادية العالمية الآن، فدول الخليج بما تملكه من ثروات طبيعية وسيادية وموقع جغرافي مؤهلة لقيام اتحاد اقتصادي على مستوى مجموعة آسيان أو بريكس أو حتى الاتحاد الأوروبي، متى ما اقترنت جودة الإدارة مع سلامة الأهداف.