
تعود الأنظار مجددًا إلى أهم الممرات البحرية التي تشكّل العمود الفقري لحركة التجارة والطاقة عالميًا، بعد انقشاع غبار الحرب الإسرائيلية الإيرانية، وهما مضيق هرمز وقناة السويس، في ظل جهود متسارعة لاستعادة الاستقرار الملاحي وتأمين تدفقات النفط والبضائع، فبينما كشفت الأزمة عن هشاشة سلاسل الإمداد العالمية، وأعادت رسم خريطة المخاطر الجيوسياسية، فإن تداعيات الحرب لا تزال تُلقي بظلالها على كفاءة وأمان المرور في هذين الشريانين الحيويين.
يُعد مضيق هرمز أحد أبرز النقاط الاستراتيجية على خارطة الطاقة العالمية، إذ يمر عبره ما يقارب 20% من إمدادات النفط اليومية وأكثر من ثلث تجارة الغاز الطبيعي المسال.
وقد تأثرت حركة الملاحة في المضيق بشكل ملحوظ خلال فترة الحرب، بعد أن اقترحت أطراف إيرانية فرض تصاريح عبور إلزامية على ناقلات النفط، وهي خطوة أثارت قلق الأسواق الدولية ودفعت بعض شركات الشحن الكبرى، مثل “Frontline” النرويجية، إلى تعليق مرور سفنها أو تعديل مساراتها.
ووفقًا لبيانات بورصة البلطيق، ارتفعت تكلفة الشحن من الخليج إلى شرق آسيا بنسبة 20% في يونيو، بالتزامن مع زيادة غير مسبوقة في أسعار التأمين.
وقدرت مؤسسات بحثية مثل Lazard Geopolitical Advisory أن أي غلق جزئي أو تعطيل في المضيق كان من شأنه رفع أسعار النفط إلى أكثر من 120 دولارًا للبرميل، ما كان سيعيد العالم إلى أجواء أزمات الطاقة في السبعينيات.
على الضفة الأخرى، واجهت قناة السويس – التي تمثل الرابط الأهم بين آسيا وأوروبا – واحدة من أسوأ فتراتها التشغيلية منذ عقود، فقد سجل عام 2024 تراجعًا غير مسبوق في عدد السفن المارة بالقناة ليصل إلى 13,213 سفينة فقط، مقارنة بـأكثر من 26 ألفًا في 2023، مما أدى إلى انخفاض حاد في إيرادات الهيئة بنسبة تجاوزت 60%، وفقًا لما كشفته وكالة “أسوشيتد برس”.
وأفاد الفريق أسامة ربيع، رئيس هيئة قناة السويس، أن جزءًا كبيرًا من السفن التجارية اتجه إلى طريق رأس الرجاء الصالح، في تحوّل مؤقت ساهم في إطالة زمن الرحلات ورفع تكاليف النقل.
وقدّرت مصادر بصندوق النقد الدولي أن حجم التجارة العابرة عبر القناة انخفض بنسبة 50% خلال أول شهرين من عام 2024، في مؤشر صادم يعكس حجم تأثير التوترات على النظام التجاري العالمي.
رغم توقف العمليات العسكرية، لا تزال التداعيات الاقتصادية والجيوسياسية للحرب ترسم ملامح مستقبل حركة التجارة البحرية. فقد أشار تقرير لمؤسسة Jefferies إلى أن نحو 56% من شحنات البضائع الجافة و48% من ناقلات النفط غيّرت مساراتها بعيدًا عن قناة السويس ومضيق هرمز خلال ذروة التوتر، ما قد يُكرّس نمطًا جديدًا في توزيع الطرق البحرية يعتمد على مبدأ “الأمان قبل الكفاءة”.
وفي محاولة لاحتواء التراجع، بادرت هيئة قناة السويس إلى تقديم حوافز ملاحية وخفض رسوم العبور بنسبة تصل إلى 15%، إلى جانب استكمال امتداد جديد بطول 10 كيلومترات لدعم القدرة الاستيعابية وتحسين تنافسية القناة.
وفق تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، فإن اضطرار السفن لسلوك طرق أطول أدى إلى إضافة ما يصل إلى 10 أيام للرحلة الواحدة، مما زاد من تكاليف الوقود والخدمات اللوجستية، ورفع التضخم العالمي بنحو 0.6% خلال النصف الأول من 2025.
هذا الواقع دفع دولًا مستوردة للطاقة، كاليابان وألمانيا وفرنسا، إلى التحذير من أن أي تعطيل مستقبلي للمضيق أو القناة قد يؤدي إلى اختناقات توريد واسعة النطاق.
تكشف الأزمة، بما حملته من اضطرابات، عن حاجة ملحة لتبني حلول أمنية واقتصادية مشتركة لحماية الممرات البحرية الدولية، فبينما تدفع التحولات الحالية نحو بناء ممرات بديلة – مثل الربط البري بين دول آسيا والخليج، أو توسعة موانئ شرق أفريقيا – يبقى مضيق هرمز وقناة السويس في قلب الاهتمام العالمي باعتبارهما ركيزتين لا غنى عنهما لمنظومة التجارة الدولية.
وفي ضوء هذه التطورات، تبدو المرحلة المقبلة مرهونة بمدى قدرة المجتمع الدولي على تعزيز أدوات الردع البحري، وتأمين سلاسل الإمداد ضد التقلبات الجيوسياسية، بما يحمي الأسواق من صدمات متكررة ويفتح المجال أمام استقرار اقتصادي أكثر استدامة.