
في كواليس الدبلوماسية المعقدة والمليئة بالتوترات، تتكشف فصول جديدة لمستقبل “سوريا” الذي طال انتظاره، ففي الوقت الذي تتنافس فيه الأطراف المتعددة على طاولة المفاوضات، وتحت بصر العالم الذي يترقب بحذر، جرت الأسبوع الماضي محادثات بالغة الأهمية بين “تركيا” وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، بوساطة أمريكية، لتحديد مسار دولة مزقتها سنوات الصراع، فبين مطالب الحكم الذاتي وتوحيد الجيوش، تبرز معالم مستقبل غامض، تتشابك فيه مصائر ملايين السوريين، وتتحدد فيه موازين القوى في المنطقة.
إن هذه المحادثات ليست مجرد لقاءات دبلوماسية روتينية، بل هي أشبه بخيوط رفيعة تُنسج على مهل في نسيج جيوسياسي هش، يهدف إلى لملمة شتات بلد أرهقته الحرب، في ظل تناقض المصالح وتضارب الرؤى بين الأطراف الفاعلة، فتتجه الأنظار الآن إلى “دمشق، وأنقرة”، حيث تُعقد الآمال على إمكانية إيجاد صيغة توافقية تضع حدًا لمعاناة طال أمدها، وتُعيد لـسوريا بعضًا من عافيتها المفقودة.
فقد شهدت الساحة السورية الأسبوع الماضي تحركات دبلوماسية مكثفة، حيث أُجريت محادثات مباشرة بين “تركيا، وقوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، بوساطة من الولايات المتحدة، وبحسب مصادر مطلعة لموقع “ميدل إيست آي”، تناولت هذه اللقاءات، التي شارك فيها مسؤولون من المستوى المتوسط من الجانبين، قضايا حيوية مثل الانسحاب الأمريكي من سوريا، ومستقبل السجون والمعسكرات التي تضم مقاتلي “تنظيم داعش” وعائلاتهم، كما تم التركيز على دمج “قوات سوريا الديمقراطية” ضمن “الجيش السوري الجديد” تحت مظلة “دمشق”.
وتُعتبر هذه المحادثات الرسمية، التي كُشف عنها، الأولى من نوعها بمشاركة أمريكية، رغم وجود اتصالات سابقة بين تركيا و”قسد” منذ العام الماضي، وتأتي هذه التطورات في وقت تسعى فيه “الإدارة السورية الجديدة”، بقيادة “أحمد الشرع” منذ ديسمبر الماضي، إلى توحيد الفصائل المقاتلة في البلاد، رغم التحديات الأمنية المستمرة.
ففي سياق متصل، انعقد اجتماع بين “قوات سوريا الديمقراطية” والحكومة السورية في العاصمة “دمشق” مؤخرًا، ورغم “الروح الإيجابية” التي سادت اللقاء وتأكيد الطرفين على التزامهم بـ “اتفاق مارس الماضي”، إلا أنه انتهى دون التوصل إلى تفاهمات حول القضايا الجوهرية، وعبر وفد “دمشق” عن تشاؤمه إزاء إمكانية التوصل لتفاهمات قريبة، واصفًا المفاوضات بـ”المعقدة والصعبة”.
وتُكشفت نقاط الخلاف الرئيسية خلال هذه المباحثات، فقد رفضت “الإدارة السورية” مطالب اللامركزية أو دمج قوات “قسد” ككتلة واحدة في “الجيش السوري الجديد”، كما رفضت “دمشق” شرط “قسد” بفرض مواد معينة في الدستور، مثل اللامركزية أو الإشارة الصريحة إلى “الأكراد”، وفي المقابل، رفض وفد “الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا” تفكيك قواته العسكرية أو دمج “قسد” في وزارة الدفاع السورية إلا ككيان موحد، مؤكدًا رفضه القاطع للحكم المركزي.
وفي خطوة إيجابية قد تمهد الطريق لتهدئة الأوضاع، استأنفت “الإدارة السورية”، و”قوات سوريا الديمقراطية” مساء أمس الاثنين، تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق تبادل الأسرى والجثامين في “حلب”، وأسفرت العملية عن إطلاق سراح 178 فردًا من “قوات سوريا الديمقراطية”، من بينهم 8 من “وحدات حماية المرأة”، مقابل نحو 250 أسيرًا من الفصائل التابعة لـ”سلطة دمشق المؤقتة”، وفقًا لـ”المرصد السوري لحقوق الإنسان”.
فقد جرت عملية التبادل في حيّي الشيخ مقصود والأشرفية بحلب، بعد مفاوضات مكثفة بين “دمشق” و”الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا”، ورغم مواجهة العملية للتأجيل بسبب رفض “دمشق” تسليم بعض مقاتلات “قسد” ومدنيين آخرين، بالإضافة إلى مطالب “دمشق” بالإفراج عن أسرى يتبعون لفصائل “الجيش الوطني” الموالي لتركيا، إلا أن نجاحها يُنظر إليه كعلامة على إمكانية تحقيق تقدم.
ويرى مراقبون أن نجاح عملية تبادل الأسرى قد يفتح الباب أمام تهدئة بين إدارة “أحمد الشرع” وقوات “قسد” الكردية، على الرغم من استمرار الخلافات حول شكل الحكم في “سوريا”، فـ”الإدارة الذاتية للأكراد” تسعى لنموذج حكم لا مركزي مدعوم من التحالف الدولي، بينما ترفض “دمشق” هذا التوجه، معتبرة إياه خطوة نحو التقسيم.
وبحسب محللين، تعكس هذه العملية “هشاشة التفاهمات” بين الطرفين، لكنها قد تكون نقطة انطلاق نحو تفاهم أوسع، خاصة بعد الاتفاق الأخير الذي نص على إعادة دمج حيي “حلب” إداريًا بالمدينة، لضمان حرية التنقل وإنهاء الملاحقات القانونية لغير المتورطين بجرائم القتل، وبموجب الاتفاق الموقع بين الرئيس السوري المؤقت “أحمد الشرع، ومظلوم عبدي”، قائد “قوات سوريا الديمقراطية”، سيتم دمج المؤسسات المدنية والعسكرية الكردية في الحكومة السورية، بما في ذلك المعابر الحدودية وحقول النفط والغاز والمطار الإقليمي.
ويظل السؤال المحوري معلقًا: هل ستنجح هذه المفاوضات في رسم خارطة طريق نحو السلام والاستقرار، أم أنها ستُضاف إلى سجل طويل من المحاولات التي اصطدمت بجدران التعقيدات الداخلية والإقليمية؟