في الخامس من نوفمبر الماضي، تاهَ في زحام الأخبار خبرٌ عن اجتماع وزير الري مع قيادات الوزارة لمتابعة إجراءات محاربة الفساد، بينما كانت التحقيقات تدور في سريّة شديدة، حول قضية فساد ضخمة داخل الوزارة.
ويومها، صرّح الوزير الدكتور هاني سويلم، بأنه حريص على محاربة الفساد وتحسين الأدوات الرقابية لمتابعة كل أعمال الوزارة، والتأكيد أن الكفاءة والنزاهة هما المعيار الرئيسي للترقيات وصرف الحوافز والمكافآت.
استمرّت التحقيقات قرابة ثلاثة أشهر، حتى إذا اكتملت أركان القضية طالعتنا الأخبار بالإيقاع بشبكةٍ كبيرة من الفاسدين، الذين استغلوا مناصبهم في تحقيق مآرب شخصية، إذ حصلوا على ملايين الجنيهات ومبنى سكني فاخر، مقابل إنهاء أعمال ومستحقات مالية لأصحاب شركات تعمل في تأهيل الترع والمصارف المائية.
كانت الدولة قد أطلقت قبل سنوات مشروعا قوميا لتأهيل وتبطين الترع في قرى مصر، بهدف تطوير شبكة الترع والمصارف، ما يساعد في تقليل تلوث البيئة وتوفير نحو 5 مليارات متر مكعب من المياه التي كانت تهدر بطول مجاري الشبكة المائية في أنحاء الجمهورية.
إلا أنّ هذا المشروع أثار أطماع 12 متهمًا، الأول رئيس الإدارة المركزية للموارد المائية والري بمحافظة المنوفية، والثاني عضو هيئة عليا، والثالث رئيس الإدارة المركزية لإقليم صرف غرب الدلتا، والرابع مدير عام الإدارة العامة لمشروعات الصرف لإقليم مصر الوسطى، والخامس والسادس موظفان بالإدارة العامة لصرف النوبارية بمحافظة البحيرة، والسابع والثامن هما مالكا شركة “لواء الحمد” للمقاولات والتاسع والعاشر هما مالكا شركة “المتقدمة” للمقاولات التي تنفذ أعمال “لواء الحمد” من الباطن، والحادي عشر هو محاسب بشركة “لواء الحمد” والثانية عشرة هي شاهدة في القضية، وهي مالكة الوحدة السكنية الفاخرة التي سيأتي ذكرها.
بداية القضية
في التحقيقات، كشف رئيس قطاع شئون الري بمصلحة الري، أحد شهود العيان على القضية، أن المتهم الأول، وهو رئيس الإدارة المركزية للموارد المائية والري بمحافظة المنوفية، أسند إلى شركة تسمى “لواء الحمد للمقاولات” أعمال تأهيل 28 ترعة بنطاق مركز غرب أشمون.
لكنّ لجنةً من الإدارة المركزية للتفتيش الفني بالوزارة، رصدت العديد من الملاحظات الفنية، فصدر قرار بإيقاف صرف مستحقات الشركة المالية عما نفذته من أعمال لحين تلافي تلك الملاحظات، وكُلِّفَ المتهم الأول بمتابعة الأمر وإعداد تقارير بما يتم تلافيه من الملاحظات.
وبعدما تولى المتهم المرور على مواقع تنفيذ الأعمال لإعداد التقارير المطلوبة ورفعها إلى ديوان الوزارة العام، بدأت عروض الرشوة تنهال عليه من هنا وهناك، من أجل “تزييف التقارير” بما يوحي أنّ الشركة قد تلافت الملاحظات المطلوبة بالفعل، بحيث تستطيع الشركة صرف المستحقات المالية المتبقية لدى الوزارة، وفقا للشاهد.
استجاب المتهم للإغراءات، وبدأت المحادثات بين الشبكة المكوّنة من 12 متهمًا، لكلّ واحدٍ فيها دورٌ يؤديه، وبينما هم كذلك إذ نما إلى علم هيئة الرقابة الإدارية ما يدبرونه، فاستصدرت إذنًا بمراقبة وتسجيل وتصوير المحادثات الهاتفية واللقاءات الدائرة فيما بينهم.
وأظهرت المراقبة، أن المتهم الأول، رئيس الإدارة المركزية للموارد المائية والري بمحافظة المنوفية، المكلّف بإعداد “تقارير الملاحظات”، كان يتلقى رشوة دورية من المتهم السابع والثامن وهما مالكا شركة “الحمد” المذكورة؛ مقابل إعداده تقارير في صالح الشركة، بما تم تلافيه من ملاحظات بأعمال تأهيل الترع، وذلك حتى تتمكن الشركة من صرف مستحقاتها؛ حيث أخذها على 5 دفعات شهرية بدأت منذ مطلع شهر فبراير من العام الماضي بقيمة 50 ألف جنيه، وكان الوسيط بين الطرفين هو المتهم الذي يحمل رقم (11) في القضية، وهو محاسب بالشركة المذكورة.
هذه الشركة، لم تكن تنفّذ أعمال تبطين الترع بنفسها، بل استعانت بشركة من الباطن تسمى “المتقدمة”، والمتهمان التاسع والعاشر في هذه القضية، هما مالكها وشريكه. وقد اتضح بالمراقبة أن المتهم الأول (المسئول عن إعداد تقارير الملاحظات لوزارة الري) حصل منهما على رشوة أيضا، أخذها على 6 دفعات شهرية بدأت منذ مطلع شهر نوفمبر من عام 2022 بقيمة 24 ألف جنيه لكل دفعة.
كما جمع المتهم الأول بالمتهمين من الثامن حتى العاشر لقاء بأحد المحال العامة بمدينة دمنهور، استلم فيه المتهم الأول المسئول عن إعداد التقارير بالوزارة 5 آلاف جنيه رشوة من أحد مالكي شركة “لواء الحمد” وهو المتهم الثامن.
فيلّا فاخرة
أما المتهم الثاني، وهو عضو هيئة قضائية عليا، فقد أظهرت محادثات مؤكدة بالتحريات أنه طلب وحدة سكنية بمنتجع “جولف بورتو مارينا” بالساحل الشمالي على سبيل الرشوة؛ مقابل إصداره قرارا عاجلا في القضية لصالح شركة لواء الحمد” لصرف مستحقاتها.
وقد رصدت الأجهزة الرقابية لقاءً بين هذا المسئول بالهيئة القضائية العليا والمتهم الثامن (أحد مالكي شركة “لواء الحمد”) في وجود المتهمة “الشاهدة” الثانية عشرة التي هي مالكة الوحدة السكنية الفاخرة بمكتب توثيق الشهر العقاري في مبنى “سيتي ستارز”؛ حيث سدد خلاله المتهم الثامن مليون وثلاثمئة وثلاثين ألف جنيه ثمنا للوحدة السكنية.
المتهم الثالث بصفته رئيس الإدارة المركزية لإقليم صرف غرب الدلتا، أخذ من المتهم الثامن 100 ألف جنيه بعد تمام اعتماده المستخلصين الختاميين الخاصين بأعمال تأهيل وتجريف مصرف العموم وإنشاء وحدات الطوارئ ببحيرة وادي مربوط بالنوبارية المسندة لشركته.
المتهم الرابع بصفته مدير عام الإدارة العامة لمشروعات الصرف لإقليم مصر الوسطى، قبل وعدًا من المتهم السابع بمبلغ 150 ألف جنيه على سبيل الرشوة بوساطة المتهم الحادي عشر؛ أخذ منه 70 ألف جنيه؛ مقابل إنهاء إجراءات استلام أعمال إنشاء سحارة على مصرف المحيط الغربي ببني سويف المسندة لشركته وصرف المستحقات المالية عنها.
كما أنه بصفته سالفة البيان؛ طلب من المتهم الـسابع 50 ألف جنيه أخرى على سبيل الرشوة، بوساطة المتهم الحادي عشر، مقابل إنهاء إجراءات إسناد أعمال إنشاء سحارة “طسا الجديدة” على مصرف المحيط بمحافظة المنيا.
وفي الأول من نوفمبر الماضي، كانت هيئة النيابة الإدارية قد توصلت إلى المتهمين الخامس والسادسة بمقر عملهما بالإدارة العامة لصرف النوبارية بمحافظة البحيرة، لينعقد بعدها بأيام قليلة اجتماع وزير الري مع قيادات الوزارة لمتابعة إجراءات محاربة الفساد.
وتسلمت محكمة استئناف القاهرة، يوم الأربعاء الماضي، أوراق هذه القضية، لتحديد جلسة محاكمة عاجلة أمام محكمة الجنايات، فهل تكون هذه القضية بداية انفراط العقد وسقوط أحجار الدومينو بما يكشف عن مزيد من القضايا في ملف “تبطين الترع” الذي اتخذته العديد من الشركات بمثابة “سبوبة” لتحقيق أقصى انتفاع مادي منها على حساب الدولة؟
يأتي ذلك بعدما كشفت الأجهزة الرقابية قضية فساد كبرى مماثلة، يتزعم المتورطين فيها مستشار وزير التموين لقطاع الرقابة والتوزيع، يمكنك قراءة تفاصيلها (من هنا).