اقتصاد

سباق الكبار نحو توطين سلاسل التوريد.. التجارة العالمية تدفع ثمنا باهظا

في خضمّ متغيرات سياسية واقتصادية متسارعة، تتجه كبرى القوى الاقتصادية حول العالم إلى إعادة رسم خريطة سلاسل التوريد والصناعة.

هذه التحولات لا تأتي فقط كرد فعل على الأزمات المتتالية مثل جائحة كوفيد-19، والحرب في أوكرانيا، وتوتر العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، بل تعكس أيضًا رغبة متزايدة لدى الدول في تقليل اعتمادها على الخارج، حتى وإن كلفها ذلك غاليًا.

توترات جيوسياسية

ومع تصاعد التوترات الجيوسياسية، بدأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في تطبيق تشريعات جديدة تهدف إلى تقليص الاعتماد على الصين، لا سيما في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والمعادن النادرة. من بين هذه التشريعات: قانون خفض التضخم الأمريكي (IRA)، وقانون الرقائق الإلكترونية، وقانون المواد الخام الحرجة الأوروبي.

هذه القوانين تشكل محاور رئيسية في الاستراتيجية الغربية لمواجهة الهيمنة الصينية على سلاسل التوريد، خاصة في ما يتعلق بالمعادن الأساسية للانتقال الطاقي والتكنولوجي مثل الليثيوم والكوبالت والنيكل.

يشير مسؤول السياسة التجارية بالاتحاد الأوروبي، فالديز دومبروفسكيس، إلى أن الهدف من هذه الإجراءات ليس فقط مواجهة التبعية، وإنما أيضًا ضمان الأمن الاقتصادي وتعزيز القدرة التنافسية الأوروبية في السوق العالمية.

لم تقف الصين مكتوفة الأيدي، بل ردّت بإجراءات جديدة لتقييد تصدير بعض المواد النادرة الاستراتيجية، وفرضت رقابة على تدفقات هذه الموارد. وبدأت في استغلال تحالفاتها مع دول الجنوب العالمي لتعزيز حضورها الجيوسياسي.

الجدير بالذكر أن بكين تسيطر على نسبة كبيرة من إنتاج وتكرير المعادن الحرجة التي تعتمد عليها الصناعات الغربية، وتعد المورد الأبرز للعديد من المكوّنات الإلكترونية الضرورية لصناعة السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح والرقائق الإلكترونية.

هذه الخطوة التصعيدية تعكس تحوّل سلاسل التوريد من كونها مسألة تجارية بحتة إلى ورقة ضغط جيوسياسية، تُستخدم في لعبة الأمم الاقتصادية.

ثمن باهظ 

وسط هذه الاندفاعة نحو التوطين وإعادة سلاسل الإنتاج إلى الداخل، أصدرت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) تقريرًا حذّرت فيه من التكاليف الباهظة لهذا التحول.

وأقرّت المنظمة في تقريرها بأن “هذا يتعارض مع بعض التأكيدات الواردة في النقاش العام حول مخاطر سلاسل القيمة العالمية”.

لكنها قالت إن النتائج التي خلصت إليها تفيد بأن “إعادة توطين سلاسل الإنتاج بما يشمل فرض رسوم جمركية أعلى، وتقديم إعانات للإنتاج المحلي، وفرض قيود إضافية، قد تؤدي إلى تراجع التجارة العالمية بأكثر من 18% والناتج المحلي الإجمالي العالمي بأكثر من 5%”.

وتابعت المنظمة أنه بناء على وضع الدول المتقدمة التي شملها التحليل، ستتراوح خسائر الثروة في كل دولة “بين 1,1% و12,2% من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك حسب كثافة وطبيعة سلسلة القيمة العالمية الخاصة بها”.

ورجحت المنظمة أن تُعاني كندا والمملكة المتحدة وأستراليا أكثر من غيرها، إلى جانب الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وجنوب إفريقيا.

وبالإضافة إلى خسائر الثروة المرتبطة بإعادة تنظيم سلاسل الإنتاج، تُظهر حسابات المنظمة أن الاقتصاد الذي يشهد عملية نقل أو إعادة توطين “ليس أكثر مرونة في مواجهة الصدمات من حيث استقرار الناتج المحلي الإجمالي والإنتاج والاستهلاك” مما هو عليه عندما تكون السلاسل موزعة جغرافيا.

وتُشير المنظمة الدولية التي تُشجع التجارة الحرة إلى أن توزيع سلاسل الإنتاج كان إحدى السمات الرئيسية للعولمة في العقود الأخيرة، وهو ما ساعد على الحد من الفقر العالمي من خلال التخصص في الإنتاج.

ولكن هذا النموذج ضعف منذ جائحة كوفيد-19 التي سلّطت الضوء على التبعية الهائلة التي تجسّدت في نقص الأقنعة الجراحية المصنوعة في الصين، ما دفع الدول المتقدمة إلى إدراك ضرورة إعادة توطين جزء من إنتاجها أو نقله إلى بلدان شريكة لها. كما شكّلت الحرب في أوكرانيا صدمة قوية لاعتماد أوروبا على الطاقة الروسية، وبشكل أعم على شركاء غير موثوقين.

“أبل” نموذج حي

في السياق ذاته، قدمت شركة “أبل” نموذجًا حيًا لتحولات سلاسل التوريد. الشركة العملاقة أعلنت أنها ستشتري أكثر من 19 مليار شريحة إلكترونية من مصانعها في الولايات المتحدة، وبالتحديد من مصانع شركة TSMC التايوانية في ولاية أريزونا.

وفي الوقت ذاته، تعمل “أبل” على تعزيز الإنتاج في الهند، متوقعة أن تكون أغلب هواتف “آيفون” المخصصة للسوق الأمريكية مصنّعة في الهند مستقبلًا. يأتي هذا التحول ضمن استراتيجيتها لفك الارتباط التدريجي عن الصين، خاصة في ظل تهديدات الرئيس الأمريكي السابق والمحتمل المقبل، دونالد ترامب، بفرض رسوم عقابية على الصين.

ويرى عديد من الخبراء أن الاقتصاد العالمي أمام مفترق طرق حقيقي. ما بين توجهات توطين الصناعة، وتصاعد النزاعات التجارية، ومحاولات تنويع الشركاء والموارد، يواجه العالم خطر تفكك النموذج الاقتصادي الذي ساد منذ نهاية الحرب الباردة، فهل سنشهد ميلاد نموذج جديد أكثر توازنًا بين الكفاءة الاقتصادية والسيادة الوطنية؟ أم أن الكلفة ستكون أكبر من قدرة العالم على تحمّلها؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *