
تتحرك الحكومة المصرية بخطى متسارعة لإعادة توظيف أصولها الصناعية التاريخية وتهيئتها لقطاعات أعلى تنافسية وكثيفة العمالة، في مسار يُعرف بإعادة هيكلة “القلاع الصناعية”.
وفي قلب هذا المسار جاء تصريح الفريق كامل الوزير، نائب رئيس الوزراء للتنمية الصناعية ووزير الصناعة والنقل، بإمكانية دراسة تحويل موقع مصنع الحديد والصلب التاريخي في حلوان إلى مجمع متكامل للصناعات النسيجية والصناعات المغذية للملابس الجاهزة، مع استهداف جذب استثمارات أجنبية وتعميق حلقات التكامل الصناعي المحلي، التصريح أثار نقاشاً واسعاً حول مستقبل الموقع وكيف يمكن تحويل إرث صناعي ثقيل إلى قاعدة إنتاجية حديثة موجهة للتصدير.
تاريخ مصنع حلوان يلقي بظلاله على النقاش الدائر، فالشركة تعرّضت للتصفية بقرار من الجمعية العامة في 11 يناير 2021، بعد سنوات من الخسائر وتضخم المديونيات وتقادم المعدات؛ وجرى فصل نشاط المناجم والمحاجر في كيان مستقل، فيما برزت خطة لاستغلال نحو 6 ملايين متر مربع من الأراضي المملوكة للشركة. هذه الخلفية توضح لماذا عاد الحديث اليوم إلى “تغيير النشاط” بدلاً من الإبقاء على نموذج إنتاج لم يعد قابلاً للاستدامة بالمعطيات القديمة.
ومع الزخم الذي أحدثه تصريح الوزير، سارعت شركة الحديد والصلب (تحت التصفية) إلى نفي امتلاكها معلومات رسمية عن دراسة تحويل المصنع إلى مجمع نسيجي، وهو ما يعكس حساسية الملف وتعقيده المؤسسي؛ إذ يتجاور فيه الإرث الاجتماعي للصناعة الثقيلة مع اعتبارات تمويلية وقانونية وإدارية تخص إجراءات التصفية وإعادة توظيف الأصول، لكن تبقى الإشارة الحكومية إلى “إمكانية الدراسة” قائمة ضمن توجهات أوسع لإعادة هيكلة القلاع الصناعية بهدف توطين سلاسل قيمة جديدة.
خارج حلوان، تظهر ملامح التحول بوضوح في قطاع النسيج نفسه، مشروع تطوير “غزل المحلة” يمضي قدماً، من أكبر مصانع الغزل الحديثة وقدرات إنتاجية يومية مُعلنة، مع توسعات في مجمعات النسيج والصباغة والتحضيرات، ما يعيد تشكيل القلعة التاريخية إلى منصة إنتاجية محدثة ركيزتها التصنيع للتصدير، كما تشير بيانات حديثة إلى خطط نمو قوية في المبيعات والصادرات لشركات القابضة للغزل والنسيج، مدعومة بزيادة رأس مال “مصر للغزل والنسيج بالمحلة” لتعزيز التمويل اللازم للتحديث، هذه التحركات تجعل من النسيج مرشحاً منطقياً لاستقبال أصول صناعية يعاد توجيه نشاطها.
إعادة الهيكلة لا تعتمد على تغيير الأنشطة فقط، بل تُسندها أدوات تمويل وسياسات تنظيمية، فبحسب عرض رسمي للحكومة، استفادت 2684 منشأة صناعية من مبادرة تمويل الصناعة (15%) بإجمالي طلبات قروض بنحو 106.5 مليار جنيه، تمت الموافقة الائتمانية على 68.5 ملياراً، واستخدمت المنشآت فعلياً نحو 56.5 مليار جنيه، كما يجري استكمال مشروعات ومجمعات صناعية بقيمة إجمالية 3.3 مليار جنيه عبر الجهاز التنفيذي للمشروعات الصناعية والتعدينية، من بينها “مرغم 3” للصناعات البلاستيكية ومرحلة جديدة بمدينة الجلود بالروبيكي، هذه الأرقام تعكس البيئة الحاضنة لإعادة توظيف الأصول الصناعية وتوطين سلاسل توريد جديدة.
وفي ملف الروبيكي، اتجهت الدولة إلى طرح مصانع جاهزة للمنتجات الجلدية عبر المنصة الصناعية الرقمية، مع تسهيلات تمويلية وسُبل تقسيط، وسط إقبال من المستثمرين على الحجز، ما يقدم مثالاً عملياً على كيفية تسريع دخول المستثمرين إلى أصول صناعية مُهيأة تشغيلياً، وهو نموذج يمكن نسخه حين يعاد توظيف مواقع مصانع تاريخية.
من زاوية المستثمرين وصنّاع القرار، تتقاطع الرسائل حول “حُسن استغلال الأصول” ورفع كفاءة التشغيل، فوزارة قطاع الأعمال العام تتحدث عن استراتيجية متكاملة لتحسين الأداء والحوكمة واستثمار الأصول العقارية لتعظيم العائد ورفع كفاءة الإدارة، بينما تُعيد الحكومة تنظيم اختصاصات وزارة الصناعة لتكون مسؤولة عن تحديث الصناعة وتعزيز تنافسيتها ووضع السياسات والاستراتيجيات الصناعية الوطنية، هذه الإشارات المؤسسية تمنح قرار “تغيير النشاط” في القلاع الصناعية غطاءً تنظيمياً وتمويلياً.
المؤدى الاقتصادي والاجتماعي للتحول المقترح في حلوان واضح: نقل أرض وموقع صناعي ضخم من نشاط رأسمالي ثقيل مرتفع الطاقة إلى نشاط نسيجي كثيف التشغيل وأقل استهلاكاً للطاقة، يفتح باباً واسعاً للتشغيل المحلي والسلاسل التصديرية، شريطة أن تُدار العملية بشفافية تراعي الحقوق العمالية وتضمن حصيلة عادلة من إعادة توظيف الأرض والأصول لصالح الخزانة والاقتصاد الحقيقي، غير أن حساسية الملف تستدعي- كما يصفه مسؤولون وخبراء – حواراً مجتمعياً ومؤسسياً متدرجاً يوازن بين تعظيم العوائد والحفاظ على الذاكرة الصناعية للمدينة.
تشير تصريحات الحكومة بشأن حلوان، مقرونةً بأرقام التمويل الصناعي ومشروعات التوسّع في النسيج والجلود، بأن مصر تدخل مرحلة “إعادة تعريف” للقلاع الصناعية: الحفاظ على القيمة عبر تغيير النشاط وتعميق سلاسل القيمة، بدلاً من الإبقاء على نماذج إنتاج فقدت ميزتها، نجاح التجربة سيُقاس بقدرتها على خلق وظائف وصادرات سريعة، مع معالجة دقيقة لملفات التصفية والأراضي وحقوق العمال، وهنا تتحدد جدوى تحويل “حصن الصلب” إلى “مدينة نسيج” حديثة تخدم هدف النمو القائم على التصنيع.