
أعاد حادث التصادم الذي وقع مؤخرًا على الطريق الدائري الإقليمي بمحافظة المنوفية، وأسفر عن وفاة 19 فتاة، تسليط الضوء على ملف تطوير شبكة الطرق في مصر، وما يرتبط به من تحديات تتعلق بالسلامة المرورية، وجدوى الاستثمارات الحكومية في هذا القطاع، وآثار الحوادث على الاقتصاد الوطني.
تزامن الحادث مع استمرار تنفيذ الحكومة لخطط موسعة لتطوير ورفع كفاءة البنية التحتية للطرق والكباري والأنفاق، ضمن استراتيجية تستهدف تحسين جودة النقل، وتسهيل حركة البضائع والمواطنين، ودعم الأنشطة الاستثمارية، ودمج مناطق الإنتاج والتوزيع. وتعد مشروعات الطرق من أبرز أولويات الدولة خلال السنوات الأخيرة، حيث تم تخصيص ميزانيات ضخمة لهذا الغرض ضمن خطط التنمية المستدامة.
وفقًا لتصريحات رسمية صادرة عن وزارة النقل، بلغت تكلفة تطوير الطريق الدائري الإقليمي نحو 50 مليار جنيه، في إطار خطة شاملة لتوسعة وصيانة هذا المحور الحيوي الذي يمتد بطول نحو 400 كيلومتر. وتشمل أعمال التطوير فصل حركة النقل الثقيل عن الملاكي، وزيادة التواجد المروري، وتركيب كاميرات ورادارات مراقبة، بهدف تحسين الأمان المروري على الطريق.
كما تضمنت خطة العام المالي 2024/2025 الصادرة عن وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية، استكمال مشروع تطوير الطريق الدائري حول القاهرة الكبرى بطول 110 كيلومترات، ضمن خطة استثمارية أشمل تستهدف استكمال تطوير المحاور والطرق القومية، ورفع كفاءتها وفقًا لمعايير الجودة الدولية.
وبحسب بيانات وزارة النقل، بلغ إجمالي الاستثمارات التي تم ضخها في مشروعات الطرق والكباري والأنفاق خلال السنوات الست الأخيرة حوالي 305 مليارات جنيه. واستحوذت مشروعات الشبكة القومية الجديدة للطرق على الحصة الأكبر من هذا الإنفاق بنحو 175 مليار جنيه، بينما بلغت استثمارات الكباري الجديدة على النيل نحو 30 مليار جنيه. وشملت هذه الخطة إنشاء نحو 7000 كيلومتر من الطرق الجديدة، تم تنفيذ أكثر من 6300 كيلومتر منها، إلى جانب تطوير ورفع كفاءة حوالي 8400 كيلومتر من الطرق القائمة، بتكلفة إجمالية بلغت نحو 110 مليارات جنيه.
وسجلت مصر تحسنًا ملحوظًا في ترتيبها على مؤشر جودة الطرق الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، حيث ارتفعت من المركز 118 عالميًا عام 2015 إلى المركز 18 في عام 2024، كما تحسّن تقييم جودة الطرق من 2.9 إلى 5.53 نقطة خلال نفس الفترة. وأشارت البيانات الرسمية إلى أن هذه التحسينات ساهمت في تقليل زمن الرحلات، وتحسين الانسيابية المرورية، ودعم التنمية العمرانية والزراعية.
من جانب آخر، كشفت تقارير صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن انخفاض في عدد الوفيات الناتجة عن حوادث الطرق خلال السنوات الأخيرة. فقد تراجع عدد الوفيات من 8211 حالة عام 2016 إلى 5260 حالة عام 2024، بنسبة انخفاض بلغت 28.6%. كما انخفض عدد المصابين في حوادث الطرق من نحو 86.5 ألف مصاب في 2016 إلى 76.3 ألف في 2024.
رغم هذا التحسن، لا تزال الحوادث المرورية تشكل عبئًا اقتصاديًا وبشريًا كبيرًا، وفقًا لتقديرات صادرة عن جهات متخصصة في السلامة المرورية. وقدّر اللواء أيمن الضبع، استشاري السلامة المرورية، حجم الخسائر الاقتصادية الناتجة عن حوادث الطرق في مصر بنحو 426 مليار جنيه سنويًا، تشمل الخسائر المباشرة وغير المباشرة. وتشمل الخسائر المباشرة تكاليف الصيانة والإصلاح والعلاج والتعويضات، في حين تندرج ضمن الخسائر غير المباشرة خسارة الأرواح، وانخفاض إنتاجية العمل، وتعطل النشاط الاقتصادي.
وأشارت دراسات دولية إلى أن الحوادث المرورية، خاصة تلك التي تسفر عن وفيات وإصابات جسيمة، تؤثر سلبًا على معدلات النمو الاقتصادي على المدى المتوسط والطويل، نظرًا لخروج أفراد من سوق العمل، وتراجع القدرة الإنتاجية في القطاعات المختلفة. كما بينت إحدى الدراسات أن تقليل وفيات الحوادث بنسبة 10% يمكن أن يؤدي إلى زيادة نصيب الفرد من الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 3.6% خلال فترة 24 عامًا.
ويقدر خبراء اقتصاديون أن التكلفة السنوية لحوادث الطرق تتضمن بنودًا غير مباشرة مثل خسائر الاستثمار والتأمين والنقل، فضلًا عن تأثيرها على قطاع السياحة. وتشير تقديرات إلى أن خسائر الحوادث غير المباشرة قد تصل إلى نحو 250 مليار جنيه سنويًا، بينما تُقدر تكلفة الاختناقات المرورية في محافظة القاهرة وحدها بنحو 47 مليار جنيه سنويًا، أي ما يعادل نحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي.
وأوضحت تصريحات المستشار سامي مختار، رئيس الجمعية المصرية لرعاية ضحايا الطرق، أن العامل البشري يُعد السبب الرئيسي في نحو 80% من حوادث الطرق، مشيرًا إلى أن عدم وجود مواصفات فنية دقيقة للسيارات المستوردة، والتأخر في تقديم الإسعافات الأولية، من العوامل المؤثرة في معدلات الوفيات والإصابات. وأضاف أن الحوادث تتسبب في أعباء إضافية على الدولة، من حيث نفقات الرعاية الطبية والتعويضات وخسائر التأمين.
كما أشار الدكتور سيف الدين فرج، أستاذ التخطيط العمراني، إلى أن ارتفاع تكاليف صيانة المركبات، والضغوط الاقتصادية على السائقين، قد ينعكس على التركيز والانضباط أثناء القيادة. وأوضح أن بعض الطرق الجديدة تفتقر إلى عناصر السلامة مثل مناطق عبور المشاة، والخدمات الأساسية، ما يزيد من خطورة بعض الحوادث رغم تطوير البنية التحتية.
وتتجه الحكومة في هذا السياق إلى تكثيف جهود التوعية المرورية، بالتعاون مع الجهات المعنية، وتحديث منظومة النقل الذكي، وتوسيع استخدام كاميرات المراقبة والرادارات، بالإضافة إلى تشديد الرقابة على الالتزام بقواعد المرور، بما في ذلك السرعة المقررة، واستخدام الحارات المخصصة لكل نوع من المركبات.
وفي ضوء الاستثمارات الضخمة التي وُجهت إلى قطاع الطرق، ووجود مؤشرات على تحسن جودة البنية التحتية، يركز المتخصصون على أهمية استكمال جهود الرقابة، والتحديث الفني، وتوفير الخدمات المساندة، بما يساهم في خفض معدلات الحوادث، وتخفيف العبء المالي والبشري المرتبط بها.
كما أوصت جهات بحثية بضرورة توجيه جزء من الإنفاق العام نحو استدامة صيانة الطرق، وتطوير نظم الطوارئ، وتعزيز كفاءة نقل الركاب والبضائع، إلى جانب تحسين مواصفات المركبات، والتوسع في بدائل النقل الجماعي، بهدف دعم السلامة وتحقيق عوائد اقتصادية أوسع.
وتستمر النقاشات حول سبل تعظيم الاستفادة من مشروعات الطرق ضمن رؤية تنموية شاملة، تربط بين البنية التحتية، والنمو الاقتصادي، وسلامة المواطن، مع التأكيد على أن الاستثمار في الطرق لا يقتصر على التشييد والرصف، بل يشمل إدارة فعالة وتكاملًا مع القطاعات الأخرى المعنية بالنقل والخدمات.