أخر الأخبار الجانبيةبنوك وتامين

«المركزى» يضبط «إيقاع الاقتصاد» على «نغمة أسعار الفائدة»

«مايسترو» السياسة النقدية خلال 10 أعوام..

شهدت مصر خلال العقد الأخير (2015 – 2025) تقلبات اقتصادية حادة، واختبارات صعبة فرضتها تطورات داخلية وأزمات عالمية غير مسبوقة. وبينما واجهت الدولة تحديات التضخم، وتقلبات أسعار الصرف، وانعكاسات جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، برز دور البنك المركزي المصري كمؤسسة سيادية نجحت في إدارة السياسة النقدية بحنكة، مستخدمًا أداة أسعار الفائدة لضبط إيقاع الاقتصاد وتخفيف آثار الصدمات.

فأسعار الفائدة ليست مجرد أرقام تُعلن من حين لآخر في بيانات رسمية؛ بل هي واحدة من أهم أدوات السياسات الاقتصادية، خاصة في الدول النامية، وعلى مدار عشر سنوات، خاض البنك المركزي المصري معارك عديدة مستخدمًا هذه الأداة، لتحقيق التوازن بين استهداف معدلات التضخم، دعم النمو، وضبط سوق الصرف.

ولعب البنك المركزي المصري خلال هذه السنوات دورًا مزدوجًا: فني وسيادي، فني من حيث ضبط أدوات السياسة النقدية بكفاءة ومرونة، وسيادي من حيث الحفاظ على استقرار النظام المالي، ودعم قرارات إصلاحية جريئة كتحرير سعر الصرف وإعادة هيكلة منظومة الدعم والتمويل.

وأظهر البنك المركزي كفاءة عالية في الموازنة بين التضخم والنمو، ونجح في تجاوز فترات كان فيها التضخم مفرطًا دون الوقوع في فخ الركود التضخمي، بل تمكن من إبقاء الاقتصاد في حالة حركة، وإن كانت بطيئة أحيانًا.

ويبقى البنك المركزي المصري حجر زاوية في استقرار الاقتصاد الوطني، ورمزًا للثقة والانضباط وسط أمواج عالمية متلاطمة، ومع دخول مصر مرحلة جديدة من النمو والإصلاح، فإن استمرار هذه الرؤية النقدية المتزنة سيظل عاملًا حاسمًا في دعم المستقبل، وجذب الاستثمار، ورفع كفاءة الاقتصاد الكلي.

في عام 2015، كانت أسعار الفائدة في مصر تسجل مستويات متوسطة نسبيًا، حيث بلغ سعر الفائدة الأساسي نحو 8.75%. إلا أن الأوضاع الاقتصادية كانت تُنذر بقدوم تحولات كبرى، فقد بدأت مؤشرات الضغط على الجنيه المصري تظهر بشكل أكثر حدة، بينما كانت الاحتياطيات الأجنبية تتآكل في ظل تراجع السياحة والاستثمارات، ما دفع الدولة إلى الشروع في تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي شامل.

نوفمبر 2016 نقطة التحول الكبرى

في واحدة من أهم اللحظات في تاريخ الاقتصاد المصري الحديث، قرر البنك المركزي في نوفمبر 2016 تحرير سعر صرف الجنيه المصري، وهو القرار الذي ترافق مع رفع أسعار الفائدة بنحو 300 نقطة أساس دفعة واحدة، لتصل إلى 14.75%. الهدف آنذاك كان كبح جماح التضخم المتوقع نتيجة تحرير العملة، واحتواء الآثار النفسية على الأسواق.

لم يكن قرارًا سهلًا، لكنه كان ضروريًا. فقد تجاوز التضخم في 2017 نسبة 30% في بعض الشهور، ما استدعى من المركزي رفع الفائدة مجددًا إلى 18.75%، وهي من أعلى المستويات في تاريخ البلاد.

تهدئة تدريجية من 2018 حتى 2019

ومع تراجع تدريجي لمعدلات التضخم وتحسن نسبي في المؤشرات الكلية، بدأ البنك المركزي في اتباع سياسة تيسير نقدي حذرة، حيث تم تخفيض أسعار الفائدة على مراحل، حتى وصلت إلى 12.25% بنهاية 2019، استهدف المركزي في هذه الفترة دعم النمو الاقتصادي والاستثمار، خاصة في ظل استقرار نسبي في الأسواق المالية.

2020.. عام الوباء والمرونة النقدية

ومع تفشي جائحة كورونا، تحرك البنك المركزي سريعًا لحماية الاقتصاد من الركود حيث قرر في مارس 2020 خفض أسعار الفائدة بشكل مفاجئ بمقدار 300 نقطة أساس دفعة واحدة، في خطوة جريئة أشادت بها المؤسسات الدولية وقد ساهم هذا القرار في دعم السيولة في السوق وتحفيز الأنشطة الإنتاجية، دون أن يؤدي إلى فلتان في التضخم، بفضل سياسة رقابية متوازنة.

ودخل الاقتصاد المصري مرحلة جديدة من التحدي مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، هذه الحرب لم تكن مجرد أزمة إقليمية، بل كانت نقطة تحول في الاقتصاد العالمي، مع ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، واضطراب سلاسل الإمداد، وزيادة الضغوط على عملات الأسواق الناشئة.

بالنسبة لمصر، كان الأثر مباشرًا وقويًا حيث ارتفع التضخم بسبب صعود أسعار القمح والزيوت والوقود، وتراجع صافي الاستثمارات الأجنبية في المحافظ المالية نتيجة خروج الأموال الساخنة، ما أحدث ضغطًا جديدًا على الجنيه المصري.

وفي هذا السياق، عاد البنك المركزي إلى استخدام سلاح الفائدة مجددًا، حيث رفعها على مراحل طوال عامي 2022 و2023، حتى وصلت إلى مستويات 19.25% في بعض الأوقات، كانت السياسة واضحة: الدفاع عن استقرار الأسعار، واحتواء التضخم الذي تخطى حاجز 30% في منتصف 2023، مع حماية ثقة المستثمرين المحليين والدوليين.

وساهمت الفائدة المرتفعة في دعم الجنيه نسبيًا في فترات التذبذب، وجذبت استثمارات في أدوات الدين الحكومي، وساعدت على تقليل موجات الدولرة وحفظ الاستقرار النقدي.

وأتاح البنك المركزي حزمة من المبادرات التمويلية بأسعار فائدة مدعومة لدعم قطاعات مثل الصناعة، الزراعة، والسياحة، كانت هذه الخطوة بمثابة توازن ذكي بين حماية الاقتصاد الكلي ودعم الأنشطة الإنتاجية، خاصة في ظل ظروف خارجية غير مواتية.

وحظي البنك المركزي المصري بإشادة متكررة من مؤسسات دولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بسبب مرونته في التعامل مع الأزمات، واعتماده على أدوات واضحة وفعالة لإدارة السيولة والأسعار، لم يكن المركزي في موقع رد الفعل فقط، بل اتبع نهجًا استباقيًا، خاصة في حالات الطوارئ مثل كورونا أو موجات التضخم المستوردة من الخارج.

مؤشرات التعافي في عام 2024

مع حلول عام 2024، بدأت مؤشرات التعافي الاقتصادي العالمي تظهر تدريجيًا، وإن كانت بوتيرة بطيئة بسبب استمرار التوترات الجيوسياسية وارتفاع أسعار الطاقة عالميًا. واتخذ البنك المركزي مجموعة من الإجراءات لتعزيز استقرار الأسواق واحتواء التوقعات التضخمية.

ففي بداية 2024، كانت أسعار الفائدة لا تزال عند مستويات مرتفعة تتجاوز 20%، وهو ما تطلب تدخلًا محسوبًا من قبل البنك المركزي. وبالفعل، ومع تراجع نسبي في معدلات التضخم – التي هبطت من 30% إلى 17% بنهاية 2024 – بدأ المركزي في خفض تدريجي ومدروس للفائدة، بما يحافظ على التوازن بين الاستقرار النقدي وتحفيز الاقتصاد.

وفي فبراير 2025، اتخذ المركزي قرارًا بخفض سعر الفائدة الأساسي بمقدار 200 نقطة أساس، في إشارة واضحة إلى ثقته في تحسن المؤشرات الكلية، لا سيما بعد ارتفاع الاحتياطي النقدي، وتحسن سعر صرف الجنيه، وعودة التدفقات الاستثمارية المباشرة وغير المباشرة.

وبعيدًا عن الأرقام والمؤشرات، فإن قوة البنك المركزي المصري خلال السنوات العشر الماضية تجلت في استقلالية قراره، وقدرته على المواءمة بين أدوات السياسة النقدية والظروف الاقتصادية، مع الحفاظ على التواصل الفعّال مع المجتمع المالي.

وعلى مدار 10 سنوات، أثبتت التجربة المصرية في إدارة أسعار الفائدة أنها ليست مجرد استجابة للأرقام، بل انعكاس لنهج متكامل في إدارة الاقتصاد الكلي تعامل البنك المركزي المصري مع أصعب الظروف: تحرير سعر الصرف، أزمات خارجية، تضخم مستورد، وجائحة عالمية، وفي كل محطة، كانت القرارات النقدية تُصاغ بحذر، تُعلن بشفافية، وتُنفذ بثبات.

إن سياسة رفع أو خفض الفائدة لم تكن يومًا شعبوية أو انعكاسًا للضغط السياسي، بل كانت دائمًا قائمة على قراءة موضوعية للمؤشرات، وتقدير مدروس لمصلحة الاقتصاد في المدى القصير والطويل، وهذا تحديدًا ما أكسب البنك المركزي مصداقية محلية ودولية، عززت من قدرة الدولة على الحصول على تمويل خارجي، والحفاظ على ثقة المستثمرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *