تجارة وصناعة

«المدن الصناعية» تكسر القيود البيروقراطية

ارتفاع الطلب على الأراضى وتنامى الصادرات وزيادة المشروعات..

على مدار العقد الماضي، تبنّت الدولة المصرية رؤية واضحة للنهوض بالصناعة الوطنية، من خلال تأسيس مدن ومجمعات صناعية متخصصة، في إطار خطة تستهدف تعميق التصنيع المحلي، وزيادة الصادرات، وتوفير بيئة جاذبة للاستثمار الصناعي. انطلقت هذه الرؤية بقوة منذ عام 2014، مدفوعة بإرادة سياسية واضحة، وبرامج دعم متنوعة تستهدف كسر القيود البيروقراطية، وتذليل العقبات التي طالما أعاقت النمو الصناعي، مثل ندرة الأراضي والخدمات غير المكتملة.
لكن التوسع في المشروعات لا يكفي وحده، فالسؤال الأهم الذي يفرض نفسه اليوم: هل تتوافر فعلاً بنية تحتية متكاملة تلبّي احتياجات المستثمرين على الأرض، وتمنحهم الثقة في الاستمرار والتوسع؟ الإجابة تكمن في قراءة تجارب المدن الصناعية الرئيسية، والوقوف على ما تحقق وما لا يزال قيد الانتظار.

العاشر من رمضان.. مركز ثقـل الصناعة المصرية
مدينة العاشر من رمضان تُمثل نموذجاً صلباً للقدرة الصناعية المصرية، بعدد مصانع يقترب من 4 آلاف منشأة، يعمل بها نحو 350 ألف عامل، وتسهم بنحو ربع صادرات مصر الصناعية. هذه الأرقام وحدها كافية لتكشف حجم النشاط الصناعي المتنامي.
المشهد في المدينة يشهد حراكاً واضحاً؛ جمعية المستثمرين استقبلت أكثر من ألف طلب لتخصيص أراضٍ جديدة ضمن توسعات تتجاوز 35 ألف فدان، كما يشير الدكتور صبحي نصر، نائب رئيس اتحاد المستثمرين، وهذا الإقبال يعكس الثقة المتزايدة، لا سيما مع تسارع أعمال الترفيق، وتيسير إجراءات التخصيص والتسليم.
في موازاة ذلك، يعمل قرابة 500 مستثمر بالتعاون مع البنك الأهلي على إنشاء محطات طاقة شمسية بتمويل ميسّر، بفائدة لا تتجاوز 3.5%، ضمن توجه عام نحو التحول للاقتصاد الأخضر.
ورغم هذا الزخم، يرى المهندس حمدي عتمان أن وتيرة التنمية في المدن الصناعية لا تزال بحاجة إلى تسريع، مطالباً بطرح مزيد من الأراضي في مناطق استراتيجية مثل طريق القاهرة–الإسماعيلية الصحراوي. أما رئيس الجمعية، الدكتور سمير عارف، فيؤكد أن حديثنا عن تعميق الصناعة تأخر كثيراً، وأن المطلوب الآن هو حلول أكثر جرأة.
من جانبه، يوضح المهندس علاء عبد اللا، رئيس جهاز المدينة، أن الجهاز يعمل على توفير الخدمات والبنية التحتية اللازمة، وفتح الأبواب أمام جميع المستثمرين، بالتنسيق مع الهيئة العامة للتنمية الصناعية، التي بدأت بدورها تشكيل لجان دورية لتلقي الطلبات ومتابعة المشكلات عن كثب.

الروبيكي.. مشروع واعد ينتظر استكمال الوصلات الحيوية
مدينة الروبيكي لصناعة الجلود، التي تأسست على مساحة تفوق 500 فدان، تُعد نموذجًا متقدمًا للتخصص الصناعي، المرحلة الأولى التي افتُتحت بين 2020 و2021، ضمّت نحو 20 مجمعاً صناعياً ومائة هنجر للصناعات المغذية، إلى جانب خطط لتوسيع النشاط ليشمل الغزل والنسيج.
النائب البرلماني وحيد قرقر وصف مشروع الربط السككي بين الروبيكي والعاشر من رمضان بأنه نقلة نوعية ستسهّل عمليات التصدير وتدفق البضائع، مشيداً بالتسهيلات التمويلية التي تقدمها الدولة، ومنها فترات سماح طويلة تمتد لخمس سنوات.
لكن رغم الجهود، لا تزال بعض عناصر البنية التحتية – كالطرق، والجسور، والربط اللوجستي مع الموانئ – تنتظر الاستكمال، ما يحد مؤقتاً من كفاءة العمليات الصناعية. ومع ذلك، يراهن المستثمرون على أن اكتمال هذه الوصلات سيحوّل المدينة إلى مركز تصدير متقدم خلال فترة وجيزة.

بياض العرب.. تجربة جديدة بثقة متزايدة
في بني سويف، دشّنت الدولة مجمع بياض العرب الصناعي عام 2021، ضمن خطة أوسع شملت 17 مجمعاً في 15 محافظة، بتكلفة تقارب 10 مليارات جنيه. المجمع يضم 266 وحدة صناعية حالياً، ضمن شبكة ضخمة تستوعب ما يزيد عن 4 آلاف وحدة صناعية على مستوى الجمهورية، وتوفر ما يقرب من 48 ألف فرصة عمل.
ورغم حداثة المجمع، لم تُسجَّل شكاوى بارزة من المستثمرين، لكن سرعة استكمال أعمال الترفيق وخدمات التشغيل ستكون الفاصل الحقيقي في تحديد مدى جاذبية المشروع خلال الفترة المقبلة.
وحتى نهاية 2022، وصل عدد المناطق الصناعية المرخصة في مصر إلى 147 منطقة، بمساحة إجمالية مرخصة تتجاوز 22.9 مليون متر مربع، تحت مظلة نظام المطور الصناعي، وهذه الأرقام تعكس توسعاً غير مسبوق في البنية التحتية الصناعية.
في العام المالي 2022–2023، بلغت استثمارات قطاع التصنيع أكثر من 74.5 مليار جنيه، أي ما يعادل 6.4% من إجمالي الاستثمارات العامة، وأسهم هذا النشاط في توظيف نحو 4.6 مليون شخص موزعين على أكثر من 430 ألف منشأة صناعية.
أما على صعيد التصدير، فقد سجلت المنتجات الصناعية نسبة 68% من إجمالي الصادرات السلعية المصرية خلال عام 2023–2024، بقيمة تجاوزت 22.2 مليار دولار، وهو ما يؤكد تحسن جودة الإنتاج المحلي وزيادة قدرته التنافسية.

الرسائل الحكومية.. دعم واضح واستجابة أسرع
ومن جانب الحكومة التي تقدم دعم واضح واستجابة سريعة، أشار رئيس مجلس الوزراء إلى الإقبال الكبير الذي تشهده المدن الصناعية الجديدة من قبل المستثمرين، مؤكداً التزام الدولة بتقديم كافة التسهيلات الممكنة.
وبدوره، شدد نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية الصناعية ووزير الصناعة والنقل، الفريق مهندس كامل الوزير، على أن الحكومة تتبنى سياسة “عدم رفض أي مستثمر جاد”، مع التعامل الفوري مع أي عقبات تتعلق بالتراخيص أو تخصيص الأراضي.
وتعمل الجهات المختصة على تنفيذ مشروعات البنية التحتية وفق جداول زمنية محددة وتحت رقابة مباشرة، بهدف توفير بيئة صناعية متكاملة ومستقرة.
رغم ما تحقق من توسع في المدن الصناعية، تبقى التحديات حاضرة، خصوصاً فيما يتعلق بسرعة استكمال الربط اللوجستي مع الموانئ والأسواق الخارجية، إلى جانب بعض التأخيرات في تشغيل المرافق في عدد من المناطق.
لكن المؤشرات العامة توحي بأن المشهد يتحرك في الاتجاه الصحيح، مع ارتفاع الطلب على الأراضي الصناعية، وتنامي حجم الصادرات، وزيادة المشروعات التوسعية، ما يؤكد أن هذه المدن باتت نقاط جذب حقيقية.
مدن مثل العاشر من رمضان، والروبيكي، وبياض العرب، تُجسّد مساعي الدولة لتحويل الصناعة إلى قاطرة تنمية، شرط استكمال جهود التمويل والترخيص، وتسريع الاستجابة لتحديات المستثمرين.
المرحلة القادمة تتطلب مزيداً من التكامل بين السياسات والخطط، لتحويل هذه المدن من مشاريع واعدة إلى نماذج ناجحة تنافس إقليمياً ودولياً، وتُعيد رسم الخريطة الصناعية في مصر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *