مصرملفات وحوارات

الكهرباء تدخل عهد المنافسة.. كيف تصوغ مصر خريطة جديدة للطاقة؟

في تحول استراتيجي يعكس توجه الدولة نحو تحرير الاقتصاد وتعزيز دور القطاع الخاص، بدأت الحكومة خطوات تنفيذية غير مسبوقة لتحرير سوق الكهرباء، من خلال السماح للقطاع الخاص بإنتاج وبيع الكهرباء مباشرةً للمستهلكين.

تأتي هذه الخطوة في إطار تطبيق قانون الكهرباء الصادر عام 2015، والذي يهدف إلى إلغاء نموذج المشتري الوحيد وتحقيق تنافسية أكبر في السوق، وهو ما يمثل تحولا جذريا في هيكل قطاع الطاقة في مصر.

سوق مفتوحة

ظلت الدولة لعقود اللاعب الأوحد في قطاع الكهرباء، عبر وزارة الكهرباء والشركة القابضة وشركاتها التابعة. وكان نموذج “المشتري الوحيد” يعني أن الدولة تشتري الكهرباء من كل المنتجين، ثم تعيد بيعها للمستهلكين. لكن مع دخول قانون الكهرباء حيز التنفيذ، بدأت مصر أولى خطواتها في إعادة هيكلة السوق تدريجيًا، تمهيدًا لفتح الباب أمام التعاقدات المباشرة بين المنتجين والمستهلكين.

وبدعم فني من البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، أطلق جهاز تنظيم مرفق الكهرباء وحماية المستهلك قواعد تنظيمية جديدة تسمح للقطاع الخاص بإنتاج الكهرباء وبيعها مباشرة للمستهلك النهائي عبر شبكة الكهرباء الوطنية، مقابل تعريفة نقل يتم دفعها للشركة المصرية لنقل الكهرباء. وتُعد هذه الخطوة بمثابة بداية فعلية لتطبيق النموذج المعروف عالميًا بـ “P2P” (منتِج إلى مستهلك).

وفي إطار التجربة الأولى لتطبيق هذه الآلية، وافق جهاز تنظيم الكهرباء على أربعة مشروعات بطاقة إجمالية 400 ميجاواط، يتم تنفيذها باستثمارات تقدر بنحو 388 مليون دولار، دون تحمل الدولة أية أعباء مالية أو تقديم ضمانات.

ووفقًا لبيانات وزارة الكهرباء، تضم قائمة المشروعات شركة “كرم سولار” التي ستزود مصنع السويس للصلب بالكهرباء من محطة طاقة شمسية، وشركة “AMEA Power” التي ستغذي محطة حاويات قناة السويس ومجموعة BEFAR للكيماويات، بينما تقدم شركة “طاقة PV” طاقة هجينة (شمس ورياح) لتشغيل مرافق حديد عز، أما شركة “إنارة” فستزود شركة منتجات السيليكون ومصنع حلوان للأسمدة بالكهرباء.

وفي تطور متسق مع هذه الخطوات، سلّمت وزارة الكهرباء شهادات التأهيل لهذه الشركات ضمن نظام التعاقدات المباشرة، مؤكدة أن هذه المشروعات تمثل بداية تحول كبير نحو سوق كهرباء أكثر حرية وتنافسية.

الدعم الفني والتقني الذي وفره البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية لم يقتصر على إعداد القواعد التنظيمية، بل شمل المساهمة في مراجعة الطلبات الفنية، والتأكد من الجاهزية المؤسسية لتطبيق النظام الجديد. وقد تم تمويل هذه المبادرة جزئيًا من أمانة الدولة السويسرية للشؤون الاقتصادية.

وقال مارك ديفيس، المدير الإقليمي للبنك لمنطقة جنوب وشرق المتوسط، إن هذه الخطوة تمثل دليلاً على قدرة الأطر التنظيمية السليمة على جذب الاستثمارات، معتبرًا أن إتاحة التعاقد المباشر بين المنتجين والمستهلكين تفتح آفاقًا جديدة للطاقة الخضراء في مصر.

من جانبه، أكد الدكتور محمد موسى عمران، رئيس جهاز تنظيم مرفق الكهرباء، أن هذه المبادرة خطوة أولى نحو زيادة التنافسية، مشيرًا إلى أن الجهاز سيتولى الإشراف على العمليات التشغيلية وضمان التزام الأطراف بالمعايير الوطنية.

في سياق متصل، عقد الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، اجتماعًا مع وزيري الكهرباء والاستثمار لمناقشة خطة الحكومة لجذب الاستثمارات في قطاع الطاقة خلال العقد المقبل. وأكد أن الحكومة ملتزمة بتعزيز دور القطاع الخاص من خلال إصلاحات هيكلية وتشريعية مستمرة، وتقديم حوافز استثمارية في القطاعات الواعدة، وعلى رأسها قطاع الكهرباء.

وأشار مدبولي إلى أن مصر تعمل على تهيئة مناخ استثماري أكثر تنافسية، من خلال تطبيق سياسات نقدية واقعية، وتحفيز السياسات المالية، والتحول الرقمي، وتوحيد جهات التحصيل، مما أسهم في زيادة الثقة في بيئة الاستثمار.

خطة طموحة

خلال الاجتماع، استعرض وزير الكهرباء ملامح الخطة الاستثمارية للقطاع، والتي تتضمن خمسة محاور رئيسية:

  1. الاستثمار في توليد الكهرباء: من خلال الطاقة الشمسية والرياح والمياه، والبطاريات والمولدات.
  2. الاستثمار في شبكات النقل والتوزيع: بالتعاون مع القطاع الخاص.
  3. الاستثمار في المكونات الكهربائية: مثل المحولات والقواطع والعوازل وخطوط الطاقة.
  4. الاستثمار في الصناعة والتطبيقات: كاللمبات الليد والشبكات الهيدروجينية.
  5. الاستثمار في الطاقة النووية: لتوسيع مزيج الطاقة.

كما تم استعراض مشروعات الربط الكهربائي مع دول مثل إيطاليا واليونان، والتي حصلت على موافقات من الاتحاد الأوروبي لتشغيل الشبكة.

ولا يخدم التحول إلى الطاقة المتجددة أهداف البيئة فحسب، بل يدعم القدرة التنافسية للصناعة المصرية. فمع اشتراط الأسواق الأوروبية لخفض البصمة الكربونية في المنتجات المصدرة مثل الهيدروجين الأخضر والصلب، تزداد أهمية السماح للمصانع المصرية بشراء الطاقة النظيفة مباشرة من المصدر.

كما أن النظام الجديد يعتمد بالكامل على تمويل القطاع الخاص، مما يخفف العبء على الموازنة العامة، ويفتح فرصًا واسعة أمام الاستثمارات دون الحاجة إلى تعهدات حكومية.

ومن المنتظر أن تُعمم تجربة التعاقد المباشر على نطاق أوسع خلال السنوات القادمة، حيث تسعى الحكومة لإدراج المزيد من المشروعات على الخريطة الاستثمارية، وتكثيف التنسيق بين وزارتي الكهرباء والاستثمار للترويج للفرص المتاحة.

ويُعد تحرير السوق خطوة استراتيجية باتجاه تحويل مصر إلى مركز إقليمي للطاقة، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة عبر تحسين كفاءة الإنتاج، وخفض تكلفة الخدمات، وزيادة الاعتماد على مصادر نظيفة ومتجددة.

ومع استمرار الحكومة في تنفيذ قانون الكهرباء وتوسيع تطبيق آلياته، فإن قطاع الكهرباء يقف على أعتاب مرحلة جديدة من التحديث والانفتاح والمنافسة، بما يعزز من قدرة الدولة على تحقيق أمن الطاقة وجذب الاستثمارات وتحقيق نقلة نوعية في الخدمات المقدمة للمواطنين والقطاع الصناعي على حد سواء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *