
لطالما كان الدولار الأمريكي هو العملة الأقوى في العالم، فهو العمود الفقري للتجارة الدولية والاحتياطيات المالية، والخيار الأفضل لتوفير السيولة وإدارة المعاملات العالمية، لكن في الآونة الأخيرة، بدأت تظهر تشققات في هذا الجدار المنيع، وذلك مع تزايد الحديث والتحليلات عن “تراجع الدولار” وظهور قوى جديدة تسعى لتحدي هيمنته، حيث بدأت العملة الأمريكية في مواجهة تحديات غير مسبوقة، مما أثار تساؤلات حول مستقبلها.
لقد بدأ الحديث عن تراجع الدولار يكتسب زخماً بعد أن استخدمته الولايات المتحدة كسلاح لفرض عقوبات اقتصادية على دول مثل روسيا، والصين، ما دفع هذه الدول وغيرها للبحث عن بدائل، هذه الخطوة، وإن كانت تهدف لإضعاف الخصوم، إلا أنها أدت إلى تآكل الثقة العالمية في العملة الأمريكية، وأظهرت أن الاعتماد على عملة واحدة قد يكون خطيرًا.
فلم تقتصر التحديات على السياسات الخارجية، بل امتدت إلى الداخل الأمريكي، فخلال فترة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الحالية أدت سياساته الاقتصادية وحربه التجارية، وخاصة فرض رسوم جمركية على دول رئيسية، إلى زعزعة ثقة المستثمرين، وتوقع بعض المحللين، مثل “مورغان ستانلي”، أن هذه السياسات قد تؤدي إلى انخفاض قيمة الدولار بنسبة 10% بحلول عام 2026، هذه التوقعات تشير إلى أن العوامل التي تضعف الدولار ليست خارجية فقط، بل تنبع أيضاً من قرارات سياسية داخلية غير متوقعة.
أيضاً يُشير الكثير من المحللين إلى أن تراجع الدولار أمر واقع، لكنهم يختلفون حول مدى خطورته، يقول “كينيث روجوف”، الخبير الاقتصادي في صندوق النقد الدولي، إن الدولار لن ينهار بالكامل ولن يختفي من الساحة العالمية، بل إنه سيظل العملة الأولى في التمويل العالمي، ولكنه يضيف أن الدولار لن يكون “فريداً” كما كان في السابق، ما يعني أن هيمنته المطلقة ستتضاءل.
فحالياً، لا يزال الدولار يمثل حوالي 57% من إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي حول العالم، وهو رقم كبير جداً، بالرغم من أنه انخفض بشكل تدريجي منذ ذروته بعد الحرب العالمية الثانية، ويأتي اليورو في المرتبة الثانية بحوالي 20%، هذه الأرقام تُظهر أن التراجع ليس انهياراً كاملاً، بل هو عودة إلى مستويات أكثر واقعية بعد فترة من الهيمنة غير المسبوقة.
ويعد التهديد الأكبر الذي يواجه الدولار اليوم ليس من عملات أخرى مثل اليوان الصيني أو اليورو، بل من السياسات المالية الأمريكية نفسها، حيث تُشير تحليلات الخبراء إلى أن الديون الأمريكية المتزايدة باستمرار تُضعف من جاذبية الدولار، فكلما زادت ديون الولايات المتحدة، تراجعت ثقة المستثمرين في استقرار عملتها، وهذا ما يُضعف من قوتها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التدخل السياسي غير المسبوق في عمل الاحتياطي الفيدرالي، وخاصة في عهد “ترامب”، يقوض الثقة في استقلالية المؤسسات النقدية الأمريكية، فقد شهد مؤشر الدولار انهيارًا حادًا دون مستوى الدعم الحاسم، مع وصول التدخل السياسي في مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى مستويات غير مسبوقة.
وتظهر علامات ضعف الدولار في الأسواق بشكل ملموس، فمؤشر الدولار الأمريكي انخفض إلى مستويات حرجة، ما يُشير إلى خسائر جسيمة، حيث يواجه مقاومة فورية عند 98.99 ومقاومة أقوى عند 99.91، ويستهدف المسار الهبوطي مستوى الدعم 96.79، مع تزايد احتمالية الوصول إلى أدنى مستوى له في عدة سنوات عند 95.89، وهذه التطورات تفتح الباب أمام عملات أخرى مثل اليورو لاكتساب قوة، وتُعيد تشكيل ميزان القوى في الأسواق.