اقتصادملفات وحوارات

الدولار في مرمى الجنيه.. إشارات إيجابية أم انتعاش مؤقت؟

ظل الدولار طوال الأعوام الماضية محور اهتمام المصريين، ليس فقط كمؤشر على القوة الشرائية، بل أيضاً كعامل حاسم في استقرار الأسعار وتوافر السلع والخدمات. وبعد سنوات من التقلبات الحادة التي شهدت ارتفاعات قياسية للجنيه أمام الدولار وتفاقم أزمة نقص العملة الصعبة، بدأ المشهد يتغير تدريجياً منذ بداية العام الحالي.

منذ منتصف أبريل، بدأ الجنيه رحلة التعافي أمام الدولار، متأثراً بعدة عوامل داخلية وخارجية، أبرزها ضعف الدولار عالمياً، زيادة تدفقات النقد الأجنبي من السياحة وتحويلات المصريين بالخارج، وارتفاع الاستثمارات الأجنبية المباشرة، خصوصاً من دول الخليج مثل قطر والسعودية. ورغم بعض الضغوط الناتجة عن التوترات الإقليمية بين إيران وإسرائيل، نجح الجنيه في الحفاظ على مكاسبه نسبياً، ليصل إلى أعلى مستوياته منذ أكتوبر الأول 2024، قرب 48.6 جنيهاً للدولار.

وفي ذلك، يتوقع رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، فخري الفقي، أن يستمر تراجع سعر الدولار تدريجياً خلال العام المالي الحالي ليقترب من قيمته الحقيقية، دون الوصول إلى مستوى 40 جنيهاً. واعتبر الفقي في تصريحات صحفية، أن هذا التحسن مرتبط بتحسن مؤشرات الاقتصاد الكلي، مثل تراجع الدين الخارجي، وتحسن التصنيف الائتماني، وزيادة الإيرادات من النقد الأجنبي، بما يشمل الصادرات، تحويلات المصريين، الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وعائدات السياحة.

وأشار الفقي إلى أن هناك طريقتين رئيسيتين لاحتساب سعر الصرف في أي دولة: الطريقة الأولى من خلال العرض والطلب، والثانية عبر قياس السعر الفعلي الحقيقي للعملة، وهو مؤشر يقيس قوة الاقتصاد ويربط العملة المحلية بأسعار أكبر 18 شريكاً تجارياً للدولة. هذا التأصيل يضع أساساً علمياً لتقدير قيمة الجنيه المصري في ضوء الأداء الاقتصادي الفعلي وليس مجرد تقلبات السوق قصيرة الأجل.

الإيرادات الأجنبية

وفي سياق تعزيز مصادر النقد الأجنبي، توقّع الفقي ارتفاع الصادرات السلعية المصرية إلى نحو 54 مليار دولار خلال العام المالي 2025-2026، إضافة إلى نمو تحويلات المصريين العاملين بالخارج إلى 40 مليار دولار، فضلاً عن استثمارات أجنبية مباشرة مرتقبة تصل إلى 35 مليار دولار، مدعومة بمشروعات عربية ضخمة على الساحل الشمالي، أبرزها مشروع قطري في منطقة “علم الروم” باستثمارات أولية قدرها 4 مليارات دولار.

كما أشار إلى توقع نمو عائدات السياحة لتتراوح بين 18 و20 مليار دولار مع افتتاح المتحف الكبير وتزايد الرواج السياحي في مدينة العلمين الجديدة، بجانب توقع ارتفاع إيرادات قناة السويس إلى 9 مليارات دولار وإيرادات خدمات التعهيد إلى 9.5 مليار دولار بحلول يونيو 2026. هذه المعطيات تعكس تنوع مصادر النقد الأجنبي وقدرتها على دعم الجنيه المصري في المدى المتوسط.

وفيما يتعلق بالالتزامات الخارجية، أفاد بأن الدين الخارجي لمصر مرشح للتراجع في حال تحويل ودائع الدول العربية لدى البنك المركزي إلى استثمارات مباشرة، بما في ذلك ودائع السعودية والكويت وقطر، وهو ما يخفف من حجم الالتزامات الخارجية ويقلص ضغوط الدين على ميزانية الدولة. كما ربط تحسن التصنيف الائتماني بمصر بصرف الشريحتين الخامسة والسادسة من قرض صندوق النقد الدولي، متوقعاً أن تنجح الدولة في جمع قرابة 4 مليارات دولار من خلال برنامج الطروحات العامة قبل موعد مراجعة الصندوق المقبلة.

إشادات دولية

وقد لاقت مرونة الجنيه إشادات واسعة من المؤسسات الدولية. فأكد صندوق النقد الدولي أن تحسن قيمة الجنيه جاء نتيجة مرونة سعر الصرف وإغلاق الفجوة السعرية مع السوق الموازية، مما أنهى تراكمات طلبات الاستيراد، كما ساهمت التدفّقات من قطاع السياحة وزيادة تحويلات المصريين العاملين بالخارج في تعزيز العملة المحلية.

وبحسب البنك المركزي المصري، شهد منتصف مايو انخفاضاً ملموساً للدولار أمام الجنيه بمقدار 50 قرشاً، بالتزامن مع زيارة وفد صندوق النقد الدولي وموافقتهم على برنامج تمويل بقيمة 8 مليارات دولار، ما عزز التفاؤل بشأن معدلات التضخم والبطالة ومستويات الاحتياطي النقدي.

من جانبها، أكدت مؤسسات مالية دولية مثل بلومبرج، وموديز، وجولدمان ساكس ومورجان ستانلي، أن مرونة سعر الصرف وتوافر الاحتياطيات من النقد الأجنبي أسهما في دعم الجنيه، وتجنب مخاطر الصدمات الخارجية، وخفض التضخم الناتج عن الاستيراد، وتعزيز الاستقرار الاقتصادي الكلي على المدى المتوسط.

وبالنظر إلى الوضع الحالي مقارنة بالعام الماضي، يتضح أن الاقتصاد المصري شهد تحولاً نوعياً: من أزمة نقص الدولار وارتفاع الأسعار بشكل غير متحكم فيه، إلى استقرار نسبي في سعر الصرف مع تحسن تدريجي للجنيه. فقد تباطأ التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية إلى 13.9% خلال يوليو 2025، مقارنة بـ33.3% في مارس 2024، وهو انعكاس مباشر لنجاح السياسات النقدية ومرونة سعر الصرف، بجانب زيادة الإيرادات الأجنبية من السياحة والتحويلات والاستثمارات.

كما ارتفعت تحويلات المصريين العاملين بالخارج بنسبة 82.7% خلال أول 9 أشهر من العام المالي 2024-2025 لتصل إلى نحو 26.4 مليار دولار، مقابل 14.5 مليار دولار في نفس الفترة قبل عام. وحققت الصادرات السلعية نمواً ملحوظاً لتبلغ نحو 40.8 مليار دولار خلال عام 2024، مما ساهم في تقليص العجز في الميزان التجاري غير النفطي.

الاستثمار الخليجي

أسهمت الاستثمارات الأجنبية المباشرة، خصوصاً من دول الخليج مثل قطر والسعودية، في دعم الجنيه المصري. فقد شكلت الصفقات العقارية الكبرى مثل مشروع رأس الحكمة ودعم الودائع الخليجية أساساً لتعزيز الاستقرار النقدي. وأكد بنك ستاندرد تشارترد البريطاني أن التدفقات الدولارية من الاستثمارات الرسمية والمحافظ المالية تزيد الثقة في الجنيه، وسط توقعات بصرف أكثر من 50% من التعهدات الاستثمارية الكبرى بحلول نهاية العام.

وأعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي بدء تفعيل حزمة الاستثمارات القطرية المباشرة التي تقدر بقيمة 7.5 مليار دولار، في إطار دعم أوجه الشراكة الاقتصادية بين البلدين. جاء ذلك، بعد إعلان قادة البلدين خلال قمة مشتركة في أبريل الماضي، عن حزمة الاستثمارات القطرية المباشر للقاهرة، لتنفيذها خلال المرحلة المقبلة، بما يسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة.

وتستهدف مصر جذب 42 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة خلال العام المالي 2025-2026 الذي بدأ مطلع يوليو الجاري.

لكن، رغم التحسن الأخير، لا تزال أزمة الدولار تهدد الاقتصاد في حال تراجعت مصادر النقد الأجنبي أو تصاعدت الالتزامات الخارجية. فقد ارتفع الدين العام إلى نحو 302 مليار دولار مع نهاية الربع الأول من 2025، بينما بلغ الدين الخارجي 156.7 مليار دولار. ورغم ارتفاع الاحتياطي النقدي إلى 48.7 مليار دولار، فإن التحدي يكمن في استمرار توليد موارد دولارية كافية لمواجهة الالتزامات المستقبلية، وهو ما يشدد عليه الخبراء من ضرورة تطوير السياحة، تسريع الطروحات الحكومية، وتحسين استغلال الأصول المملوكة للدولة.

ومع صعود الجنيه إلى أعلى مستوياته منذ أكتوبر 2024، يُطرح السؤال حول انعكاس هذا التحسن على الأسعار. لكن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أكد أن المواطن لن يشعر بأي تحسن حقيقي إلا بانخفاض الأسعار بشكل ملموس ومستدام، مشدداً على ضرورة توفير الأسباب التي تدفع نحو مسار نزولي للأسعار، في ظل تجاوز الدولة للأزمة الاقتصادية السابقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *