لا يتشابه الهجوم الذي شنّه مقاتلو حركة “حماس” الفلسطينية على قوات الاحتلال الإسرائيلي مع حرب أكتوبر عام 1973 في توقيته فحسب، بل في شيءٍ آخر كان شديد الصدمة على إسرائيل وحلفائها.
فقد جاءت عملية “طوفان الأقصى” مفاجئةً، تمامًا كما حدث في المرّة الأولى حين شنت مصر هجوما مفاجئا على دولة الاحتلال في يوم الغفران اليهودي، بعدما تمكنت من تدمير “خط بارليف” واجتيازه، وهو ما تكرر بعد نصف قرنٍ من الزمان، يوم السبت الماضي.
“خط بارليف” الأول
كان “خط بارليف” الأول، يبدأ من قناة السويس وحتى عمق 12 كيلومترا داخل شبه جزيرة سيناء على امتداد الضفة، حيث شيّدته إسرائيل بعد حرب عام 1967، بهدف تأمين الضفة الشرقية لقناة السويس ومنع عبور أي قوات مصرية إليها.
وقد كان يتكون من تجهيزات هندسية ومرابض للدبابات والمدفعية وتحتله احتياطيات من المدرعات ووحدات مدفعية ميكانيكية، بطول 170 كيلومترا على طول قناة السويس، وتكلف بناؤه نحو 500 مليون دولار. وكان ارتفاع الساتر الترابي فيه يصل لما يتراوح بين 20 و22 مترا، وانحدار بزاوية 45 درجة على الجانب المواجه للقناة، وكان يحتوي على 22 موقعا دفاعيا و26 نقطة حصينة، كل نقطة منها عبارة عن منشأة هندسية معقدة تتكون من عدة طوابق وتغوص في باطن الأرض بمساحة تبلغ 4000 متر مربع.
زُوّدت كل نقطة بعدد من الملاجئ والدُشم التي تتحمل القصف الجوي وضرب المدفعية الثقيلة، وفي كل نقطة منها نحو 15 جنديا تنحصر مسئوليتهم في الإبلاغ عن أي محاولة لعبور القناة وتوجيه المدفعية إلى مكان القوات التي تحاول العبور. كما ضمّت قاعدة الخط أنابيب تصب في قناة السويس لإشعال سطح القناة بـ”النابالم” في حالة محاولة القوات المصرية العبور.
وفى يوليو عام 1969 كُلِفَت الفرقة 19 مشاة (غرب قناة السويس) بمهمة اختراق “خط بارليف”، ومع أنها مهمة شبه مستحيلة من الناحية العسكرية، حيث تحتاج إلى 15 ساعة لتفجير الساتر الترابي ما سينتج عنه خسائر كبيرة فى الأرواح وفى المعدات، إلا أن صارت ممكنة عندما قفزت فكرة استثنائية إلى عقل المقدم المهندس باقى زكى يوسف، الذي استدعى خبرته في تجريف الجبال في أسوان، واستطاع الجيش بقوة الماء الدافعة فتح ثغرات فى الساتر الترابي وعبوره.
تكرر الأمر بعد نصف قرن
على نحو مشابه، تصرّفت “حماس”. ففي صباح 7 أكتوبر، اخترق عناصرها الجدار الذي يفصل قطاع غزة عن مستوطنات الغلاف بسهولة، على الرغم من أنّه جدار شديد التحصين، أنفقت إسرائيل نحو 1.1 مليار دولار على أعمال بنائه التي استغرقت أكثر من ثلاث سنوات، فقد تم الانتهاء منه في نهاية عام 2021.
كان بناء الجدار يستهدف الحدّ من فاعلية سلاح الأنفاق التي حفرتها فصائل المقاومة الفلسطينية في عدة مناطق في غزة، لتخترق الحدود الشرقية مع غلاف القطاع بعشرات الأمتار، واعتبرتها إسرائيل يومها أنفاقًا هجومية.
يمتد الجدار على طول أكثر من 60 كيلومترًا في الحدود بين إسرائيل والقطاع، شمالًا وجنوبًا، ويصل ارتفاعه فوق الأرض ما بين 6 إلى 10 أمتار، أمّا الجزء الأساسي الموجه ضد الأنفاق فيمتد على أعماق بعيدة تصل إلى 25 مترًا تحت سطح الأرض.
وتطلب بناؤه نحو 1200 عامل، وإزالة 330 ألف شاحنة من الرمال والصخور، وإضافة مليوني متر مكعب من الخرسانة والحديد، الذي إذا تم وضعه في خط متصل فإنه سيصل إلى أستراليا، حسب تصريحات الجنرال عيران عوفر الذي يشرف على بناء حواجز في وزارة الدفاع.
تسميه إسرائيل “الجدار الذكي”، لأنه يحتوي على أجهزة رصد إلكترونية ومجسات تشعر بأي حركة وكاميرات وأجهزة تحسس، للكشف عن محاولات اختراقه أو الحفر أسفله، وقد تم صنعه بمشاركة 100 آلية هندسية ثقيلة، وعمل فيه عشرات المهندسين ومئات العمال لصبّ 2.3 مليون طن من الخرسانة في الجدار الإسمنتي، فضلاً عن 140 ألف طن من الحديد.
ولكي يتمكنوا من توفير هذه الكميات الضخمة من المواد، تم بناء عدد من مصانع الخرسانة على طول مسار الجدار، على مسافة تتراوح بين 5 و10 كيلومترات على حدود غزة.
وقال وزير الدفاع حينها، بيني غانتس، إن “هذا الحاجز، وهو مشروع تكنولوجي من الدرجة الأولى، يحرم حماس من القدرات التي حاولت تطويرها ويضع جدارا حديديا وأجهزة الاستشعار والخرسانة بينها وبين سكان الجنوب”.
ماذا حدث وكيف؟
كانت السلطات الإسرائيلية على يقينٍ من أنّ الجدار المدجج بالأجهزة التكنولوجية المتطورة، والمليء بالأسلاك الشائكة والكاميرات وأجهزة الاستشعار، والمحصن بقاعدة خرسانية ضد الأنفاق والمدافع الرشاشة التي يتم التحكم فيها عن بعد، لا يمكن اختراقه، قبل أن يتمكن مسلحو “حماس” من تدمير أجزاء منه والتسلل من خلاله، فيما عبره آخرون جوًا عن طريق استخدام المظلات، فكيف حدث ذلك؟
قبل وقت قصير من دخول المسلحين إلى الأراضي المحتلة، فجر السبت، رصدت الاستخبارات الإسرائيلية زيادة في نشاط بعض شبكات الجماعات المسلحة في غزة، فأرسلت تنبيها إلى الجنود الإسرائيليين الذين يحرسون حدود غزة، لكنهم لم يأبهوا ذلك التحذير، إما لأنه لم يصل إليهم أو لأن تجاهلوه ولم يطلعوا عليه، وفقا لاثنين من كبار المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين تحدّثا إلى صحيفة “نيويورك تايمز“.
بعد فترة وجيزة، أرسلت حماس طائرات دون طيار لتعطيل محطات الاتصالات الخلوية وأبراج المراقبة التابعة للجيش الإسرائيلي على طول الحدود، ما منع الضباط المناوبين من مراقبة المنطقة عن بعد بكاميرات الفيديو. ودمرت هذه الطائرات أيضا مدافع رشاشة يتم التحكم فيها عن بعد، نصبتها إسرائيل فوق تحصيناتها الحدودية، ما أدى إلى إزالة وسيلة هامة للتصدي للهجوم.
ولمّا نجحت طائرات “حماس” المسيّرة في مهاجمة الأبراج الخلوية التي تنقل الإشارات من وإلى نظام المراقبة، بات النظام عديم الفائدة. ولم يتلق الجنود المتمركزون في غرف التحكم خلف الخطوط الأمامية إنذارات تفيد بأن السياج قد تم اختراقه، وبالإضافة إلى ذلك، تبين أن اختراق الجدار كان أسهل مما توقعه المسؤولون الإسرائيليون.
عندئذٍ، تدفق أكثر من 1500 مسلح بسرعة على متن شاحنات صغيرة ودراجات نارية، وانضم إليهم آخرون باستخدام الطائرات الشراعية والزوارق السريعة في البحر، لشن هجمات بالأسلحة النارية على البلدات المجاورة. وقع الهجوم تحت غطاء وابل من الصواريخ التي استهدفت مناطق إسرائيلية، وشمل نيران القناصة، فيما هرعت جرافات لتمزيق الجدار، في ما يقدر بنحو 30 مكانا على طول الحدود.
وساعد في نجاح المهمة، أن إسرائيل كانت قد نقلت معظم الجنود إلى الضفة الغربية، فيما تمركز عدد قليل من الجنود بالقرب من الحدود، حيث كان قادة الجيش يعتقدون أنّ الحاجز المدجج بالتكنولوجيات الفائقة، لا يحتاج إلى عدد كبير من القوات لحراسة الحدود.
بالإضافة إلى ذلك، وفقًا لتقرير صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، تم تجميع العديد من القادة في قاعدة عسكرية واحدة بالقرب من الحدود، مما منع الاستجابة المنسقة ونقل المعلومات إلى سائر الجيش بمجرد اجتياح المسلحين للقاعدة ومقتل القادة أو جرحهم أو اختطافهم، إلى جانب العديد من الجنود ذوي الرتب الأدنى، الذين تم استهداف بعضهم أثناء نومهم.
روايات اللحظات الصادمة
روى جنود إسرائيليون كانوا في مهمة حراسة اللحظات الصادمة التي عاشوها عندما أطلق المسلحون عمليتهم المعقدة لاختراق الجدار. قالت جندية كانت متمركزة في مهمة مراقبة في “ناحال عوز” في الجانب المقابل لمدينة غزة في مقابلة تلفزيونية من سريرها في المستشفى “انطلقت الصواريخ الساعة السادسة والنصف (03:30 ت غ). وأضافت أن “نحو 30 مسلحا” احتلوا بسرعة قاعدة الجيش وسيطروا عليها لمدة سبع ساعات.
واستذكرت المشهد قائلة “ركضت حافية القدمين إلى الملجأ، وبعد ساعة، بدأنا نسمع أصواتا بالعربية، وبدأوا بإطلاق النار عند المدخل” مشيرة إلى أن قاعدة الجيش “تحوّلت لساعات الى معسكر لهم”، الى أن استعادتها وحدة خاصة من الجيش الإسرائيلي.
وفي شهادة نشرت على موقع إنستجرام، قالت جندية مراقبة إن الهجوم “لم يكن من الممكن أن أتخيله في أسوأ كوابيسي، ولم أعتقد أبداً أنني سأرى شيئا كهذا خلال المراقبة. لقد بذلت قصارى جهدي حتى أصاب قناص نظام المراقبة”.
قناصة دمروا المراقبة
قال متحدث باسم الجيش الإسرائيلي لوكالة فرانس برس إن قناصة “أطلقوا النار على نقاط المراقبة” المنتشرة على طول السياج، في اللحظات الأولى للهجوم.
وقالت جندية كانت متمركزة في نقطة مراقبة إن المسلحين الفلسطينيين “بدأوا بإطلاق النار على كاميرات المراقبة، ووصل الأمر إلى نقطة لم يعد بإمكاننا فيها مراقبة الحدود”.
ووصفت الجندية الهجوم بأنه “شيء مجنون”، وأضافت أنه عندما تعرضت القاعدة للهجوم “قيل لنا إن خيارنا الوحيد هو… الركض إلى غرفة العمليات للنجاة بحياتنا” مؤكدة أنه تم التغلب على جنود المشاة في القاعدة بسرعة.
وقالت إن “قوات الأمن لم تعرف من أين تبدأ. كان هناك الكثير من الإرهابيين، وأشياء كثيرة [تحدث]”.
وصف الإعلام الإسرائيلي ذلك الهجوم بأنه الأسوأ في تاريخ إسرائيل الممتد لـ75 عاما، فيما قال جوناثان كونريكوس، المتحدث الدولي السابق باسم قوات الدفاع الإسرائيلية “لقد فشل النظام كله.. فشلت البنية الدفاعية بأكملها بشكل واضح في توفير الدفاع اللازم للمدنيين الإسرائيليين”، وأضاف “هذه لحظة تشبه لحظة ‘بيرل هاربر’ بالنسبة لإسرائيل، لحظة تبدأ واقعاً جديداً”.
و”بيرل هاربر” هو هجوم جوي شنته البحرية الإمبراطورية اليابانية على الأسطول الأمريكي في المحيط الهادي وكان بمثابة نقطة تحول أرغمت الولايات المتحدة على دخول الحرب العالمية الثانية.