مصر

التعليم والهوية الوطنية.. كيف يُعيد المتحف المصري الكبير تعريف الانتماء لدى طلاب اليوم؟

بين جدران المتحف المصري الكبير، الذي يفتح أبوابه كأكبر متحف أثري في العالم، تُعرض آلاف القطع التي تحكي قصة المصري القديم؛ حضارة صاغت التاريخ بيدٍ من حجر وعقلٍ من نور لكن، بينما تتأمل العيون تماثيل الملوك والآلهة، يُطرح سؤال عميق.. هل يعرف طلاب اليوم ما يرويه هذا المتحف؟ وهل ما زال التعليم المصري قادرًا على غرس جذور الهوية والانتماء في جيلٍ بات يعيش أكثر في العالم الرقمي من العالم الواقعي؟.

متحف لا يخص الماضي فقط

افتتاح المتحف المصري الكبير لم يكن مجرد حدث أثري، بل رسالة حضارية للعالم، وللأجيال الجديدة قبل الجميع، فالمتحف الذي يقف شامخًا أمام أهرامات الجيزة، لا يعرض تماثيل فحسب، بل يقدم نموذجا لما يجب أن تكون عليه التربية والتعليم في مصر كوعي بالهوية وفخر بالجذور وتفاعل مع التكنولوجيا.

وصرّح الدكتور أحمد غنيم، المدير التنفيذي للمتحف المصري الكبير، في تصريحات صحفية سابقة بأن المتحف لن يكون مجرد قاعة عرض، بل «مركزًا للتعلّم»، يحتوي على برامج تعليمية وتفاعلية لطلاب المدارس والجامعات، وهذا ما يجعل المتحف امتدادًا طبيعيًا للمناهج الدراسية، لا مكانًا للزيارة فحسب.

هل المناهج تربّي على الهوية؟

ومنذ بدء تطوير المناهج في السنوات الأخيرة، أدخلت وزارة التربية والتعليم مواد جديدة مثل القيم واحترام الآخر، وأعادت صياغة الدراسات الاجتماعية لتشمل مفاهيم الهوية والانتماء بشكل أعمق.

وفي تصريح خاص لـ”البورصجية”، أكدت داليا الحزاوي، الخبيرة التربوية ومؤسس ائتلاف أولياء أمور مصر، أن هناك جهودًا ملموسة تبذلها وزارة التربية والتعليم لغرس الهوية والانتماء الوطني لدى الطلاب، مشيدة بالقرار الأخير الصادر عن وزير التربية والتعليم بشأن تنظيم عمل المدارس الدولية التي تمنح شهادات دولية أو أجنبية، واصفة إياه بأنه “قرار جريء وضروري”.

وأضافت أن الاتجاه الحالي لتعزيز قيم الولاء والانتماء لدى الطلاب، خاصة في المدارس الدولية، خطوة محورية يجب البناء عليها، فالمؤسسة التعليمية ليست فقط مكانًا للتعلم، بل شريك أساسي في تكوين شخصية الطالب ومبادئه وسلوكياته.

وشددت الحزاوي على أن تعميق الهوية الوطنية لن يتحقق إلا من خلال الاهتمام بتدريس اللغة العربية والتاريخ، مشيرة إلى أن المناهج الجديدة تحمل بالفعل ملامح واضحة لتعزيز الانتماء، “لكننا نأمل في مزيد من الجهد والتطوير في هذا الاتجاه”، على حد تعبيرها

وتابعت الحزاوي قائلة: “افتتاح المتحف المصري الكبير يمثل فرصة استثنائية ليكون المتحف أداة تعليمية تفاعلية تساعد الطلاب على فهم واستيعاب المناهج الدراسية المرتبطة بالتاريخ والآثار، بطريقة حية وملهمة.”

كما دعت المدارس إلى تبنّي استراتيجية لرفع الوعي الأثري والسياحي بين الطلاب، واستغلال منصة “رحلة” التي أطلقتها وزارة السياحة والآثار، لتنظيم الرحلات المدرسية المجانية إلى المواقع والمتاحف الأثرية، مؤكدة أن هذه التجارب الميدانية تغرس في نفوس الطلاب حب التاريخ والانتماء لبلدهم.

واختتمت حديثها قائلة “غرس الفخر والانتماء في نفوس أبنائنا هو السلاح الحقيقي لمواجهة الحروب غير التقليدية التي تستهدف وعي الشباب اليوم، فحين يدرك الطالب قيمة تاريخه وهويته، يصبح أكثر صلابة في مواجهة أي محاولة لزعزعة انتمائه.”

الهوية المصرية للطالب المصري لا تبُنى صدفة

ومن جانبه، وفي ظل الانفتاح الرقمي المتسارع وتأثر الأجيال بالثقافات العالمية، أكد الدكتور عاصم حجازي، أستاذ علم النفس التربوي بجامعة القاهرة لـ”البورصجية”، أن الهوية الوطنية للطالب المصري لا تُبنى صدفة، بل تتشكل من خلال ربطه بجذوره التاريخية والثقافية والحضارية.

وأضاف حجازي أن المتحف المصري الكبير يمكن أن يكون عنصرًا نفسيًا محفزًا قويًا لتقوية الشعور بالفخر والانتماء، قائلًا:
“حين يرى الطالب بعينه حجم الإبداع والدقة والإتقان في آثار أجداده، ويدرك مقدار الإشادة العالمية بالحضارة المصرية، يتحول هذا الإعجاب تدريجيًا إلى فخر ثم إلى ولاء وانتماء أعمق، وهي مشاعر تبني شخصية متوازنة وواعية بهويتها.”

وأشار إلى أن أحد أسباب عزوف بعض الطلاب عن دراسة التاريخ هو اقتصار تدريسه على الجانب النظري الجاف، موضحًا أن الحل يكمن في تحويل دراسة التاريخ إلى تجربة حيّة، مقترحا تنظيم رحلات دورية للمتحف المصري الكبير ومتحف الطفل، إلى جانب بث أفلام تسجيلية ولقطات حيّة لمحتويات المتاحف عبر قنوات “مدرستنا” والمنصات التعليمية المختلفة، بما يجعل المادة التاريخية أكثر حيوية ومتعة للطلاب.

واختتم الدكتور عاصم حجازي حديثه بالتأكيد على أن بناء الهوية الوطنية عملية تشاركية، لا تقتصر على المدرسة وحدها، بل تتطلب تناغمًا بين التعليم والأسرة والإعلام، قائلًا: “لكل طرف دور جوهري في صياغة وعي الطالب وانتمائه، لكن الفاعلية الحقيقية تتحقق فقط حين تتكامل هذه الأدوار لتثمر جيلًا فخورًا بماضيه ومؤمنًا بمستقبله.”

جيل التكنولوجيا.. بين الماضي والمستقبل

جيل اليوم يتعلّم بسرعة من خلال الشاشات، يتفاعل مع العالم لحظة بلحظة، لكنه قد لا يعرف كيف يربط نفسه بجذوره.
في استطلاع صغير أجرته إحدى الجمعيات التعليمية، أجاب أكثر من 60% من طلاب الإعدادية بأنهم لم يزوروا أي متحف في حياتهم، وأنهم يعرفون أسماء مشاهير أكثر من أسماء ملوك مصر القديمة.

ومع ذلك، هناك مبادرات جديدة تحاول استثمار التكنولوجيا لصالح الهوية، مثل استخدام الواقع الافتراضي (VR) في تدريس التاريخ، حيث يدخل الطالب بيئة تحاكي المعابد والقبور الفرعونية، ليتعلّم بطريقة تفاعلية وممتعة.

وفي هذا السياق تقول احدى معلمات الدراسات اجتماعية بإحدى المدارس الحكومية: “عندما استخدمنا مقاطع VR لرحلة إلى مقبرة توت عنخ آمون، الطلاب عاشوا التجربة بعيونهم، ولم ينسوها بعدها أبداً، التكنولوجيا ليست عدواً للتاريخ، بل وسيلة لإحيائه.”

المتحف كفصل دراسي مفتوح

كما بدأت وزارة السياحة والآثار بالتعاون مع وزارة التعليم تنفيذ مبادرة “رحلة” التي تتيح للمدارس الحكومية حجز زيارات مجانية إلى المواقع الأثرية والمتاحف عبر منصة إلكترونية، وهذه الخطوة تمثل نقلة نوعية في جعل التاريخ يُرى ويُلمس لا يُدرّس فقط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *