
في الوقت الذي يشهد فيه العالم تحولات كبرى من الناحية الاقتصادية والسياسية، يُظهر الاقتصاد العالمي تطور طفيف مع وجود بعض المرونة بشكل ملحوظ في الربع الأخير من العام الحالي، فبرغم وجود تحديات اقتصادية وسياسية متسارعة، فقد أثبتت أغلب الأسواق والقطاعات الاقتصادية حول العالم قدرتها على التكيف مع السياسات الدولية الغير مستقرة، مستفيدًة من التراجع الحاصل في أسعار الفائدة، والثبات الملحوظ في معدلات التضخم، والمفاوضات التجارية التي تمت مؤخرًا بين الدول الكبرى والتي قد تكون حاسمة.
وبحسب تقرير شركة “يورومونيتور إنترناشيونال” البريطانية، المتخصصة في مجال الأعمال وأبحاث السوق، والتي اعتبرت أن الاقتصاد العالمي قد نجح في التكيف نسبيًا مع الصدمات التجارية المتلاحقة التي سببتها الصراعات السياسية، وذلك لعدة أسباب منها: انخفاض أسعار الفائدة، واعتدال التضخم، وإعادة تنظيم سلاسل الإمداد والخدمات اللوجستية، ومرونة القطاع الخاص في توجيه التجارة نحو الأسواق ذات العائد الأعلى.
ورغم ذلك، أوضحت “يورومونيتور”، أن التعريفات الجمركية الأمريكية التي فرضها “ترامب”، ووجود عدم استقرار سياسي دولي، ما يزالان يشكلان تهديدًا مستمرًا لنمو الاقتصاد العالمي، فقد توقعت “الشركة” أن يتباطأ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي العالمي إلى 3.1% في 2025 و3.0% في 2026، ولفتت إلى استمرار التهديدات الناتجة عن الصراعات الإقليمية والدولية والاضطرابات المناخية وارتفاع سقف مستويات الدين العام للدول.
وفي المقابل أوضح “توم ستاندج” لمجلة “الإيكونوميست”، أن الاقتصاد الأمريكي أثبت مرونة أكبر من المتوقع في ظل رسوم “ترامب” الجمركية، لكنه ما زال يواجه مخاطر تراجع النمو الاقتصادي العالمي.
وأضاف “ستاندج” أن هذه المعطيات انعكست على الأسواق المالية، في ظل ارتفاع خطر أزمة في سوق السندات بسبب الإنفاق المفرط للدول الغنية، والذي قد يردي إلى زيادة احتمال وجود تهديد بانهيار هذه الأسواق، فيما يراقب العالم عن قرب التعيين المقبل لرئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، إذ يمكن أن تتحول السياسة النقدية إلى أداة سياسية، مما يثير احتمال صدام في الأسواق.
ومن جهة أخرى، شهدت منطقة اليورو نموًا ضعيفًا بنسبة 0.2% في الربع الثالث من هذا العام، وفق تقرير “مركز أبحاث كايكسابنك” للتحليل الاقتصادي، والذي بين اختلاف الأداء الاقتصادي بين ألمانيا وإيطاليا، حيث سجلت كلاهما ركودًا تجاريا، بينما سجل الاقتصاد الفرنسي تسارعًا مدفوعًا بزيادة صادرات معدات الطائرات، في حين حافظ الاقتصاد الإسباني على نمو شبه ثابت.
وقد أشار تقرير “كايكسابنك” إلى أن الربع الرابع من هذا العام، شهد بداية إيجابية، مع تحسن مؤشرات الثقة الاقتصادية ومؤشرات مديري المشتريات، وانخفاض معدل التضخم الكلي إلى 2.1%، الأمر الذي يعكس توازنًا دقيقًا بين الانتعاش والتراجع في القدرات الاقتصادية.
ومع ذلك، حسب “توم ستاندج”، تبقى أوروبا مضطرة لزيادة الإنفاق الدفاعي، ودعم نموها الاقتصادي، والحفاظ على تجارتها الحرة وأعمال الطاقة الخضراء، وسط تهديدات ارتفاع الدعم للأحزاب اليمينية بسبب سياسة التقشف.
وفي نفس السياق، ذكر تقرير “مركز كايكسابنك” أن الصين سجلت نموًا ربع سنويًا بنسبة 1.1%، رغم تباطؤ نموها السنوي إلى 4.8% وتراجع الاستهلاك والاستثمار بها، ومع ذلك، كانت الصادرات الإجمالية، وخاصة إلى دول الجنوب العالمي، عاملًا مهمًا في الحفاظ على نمو الصين، خصوصًا بعد اتفاقيات التجارة الجديدة مع الولايات المتحدة ودول جنوب شرق آسيا لتعزيز تجارة المعادن النادرة والرقائق الإلكترونية.
ومن زاوية أخرى، وفق تقرير “كايكسابنك”، ساهمت جولة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الآسيوية في تخفيف التوتر التجاري مع الصين، متضمنة تأجيل ضوابط التصدير، واستئناف شراء فول الصويا الأمريكي، وخفض التعريفات الجمركية، مع فتح المجال أمام تصدير الرقائق المتقدمة.
كما أن إبرام الولايات المتحدة لاتفاقيات مع دول جنوب شرق آسيا لتعزيز التعاون في المعادن النادرة، عكس استمرار نهج “ترامب” المفضل في المعاملات الاقتصادية، وفق ما أشار إليه “توم ستاندج” لمجلة “الإيكونوميست”.
وعلى صعيد الأسواق الناشئة، أظهرت الاقتصادات مرونة قوية رغم ضعف بعض مؤشرات التصنيع، مع انتعاش ملحوظ في كل من الهند، وتايلاند، وفيتنام، والبرازيل، في حين تأثر اقتصاد المكسيك بالسياسات التجارية الأمريكية وانكمش بنسبة 0.2% في الربع الثالث من هذا العام، وفق تقرير “كايكسابنك”.
و ضمن هذا الإطار، أكد تقرير “اتحاد الصناعات الألمانية” أن الشركات الألمانية تبدي ثقة متزايدة في فروعها الخارجية رغم ضعف التوقعات المحلية، وأوضح أن 44% من الشركات الألمانية العالمية تتوقع تحسن الأداء، بينما تبلغ النسبة في ألمانيا 15% فقط، ولفت التقرير إلى أن هذه الشركات تستجيب للظروف الاقتصادية والسياسية من خلال تحويل استثماراتها نحو الأسواق ذات الطلب المتزايد، خصوصًا في الصين، حيث يخطط أكثر من ربع الشركات الألمانية لتوسيع استثماراتها رغم تقييم الوضع الحالي بأنه ضعيف.
وعلى ضوء ما سبق، أظهرت البيانات والتقارير الحديثة قدرة ومرونة اقتصادية ملحوظة، سواء على مستوى الدول الكبرى أو الأسواق الناشئة، في ظل تقلبات السياسات التجارية وتصاعد النزاعات الدولية، ومع ذلك، يبقى الطريق محفوفًا بالتحديات والمخاطر، ما يجعل العام المقبل اختبارًا حقيقيًا لصمود الاقتصاد العالمي وقدرته على التكيف مع العالم الجديد المفروض بفعل التقلبات السياسية والجمركية وفق تحليلات “يورومونيتور، وكايكسابنك، والإيكونوميست”.
اقرأ أيضا: قمة مجموعة العشرين.. رئيس جنوب إفريقيا: الشراكة الدولية مفتاح حل أزمات العالم





