كان من المتوقع في بلدٍ يواجه صعوبةً في تدبير العملة الصعبة، أن يتأثر قطاع الأدوية؛ ذلك أنّ مصر تستورد أكثر من 95 % من المواد الخام الفعالة وغير الفعالة ومواد التعبئة والتغليف الخاصة بالصناعات الدوائية، وفق آخر تقرير تلقاه مجلس الشيوخ.
وعلى الرغم من أن صادرات مصر من القطاعات الطبية الثلاثة (أدوية ومستلزمات طبية ومستحضرات تجميل) شهدت ارتفاعًا كبيرًا خلال عامي (2021-2022)، إذ ارتفعت من 696 مليون دولار عام 2021، إلى 964 مليون دولار عام 2022، فإن حجم واردات الدولة من الخامات الدوائية يتراوح بين 2,5 إلى 3 مليارات دولار سنويا.
وفقا لبيانات رسمية، بلغ حجم مبيعات الأدوية في مصر 170 مليار جنيه (5.5 مليار دولار) خلال عام 2022. ويبلغ معدل إنفاق الفرد على الدواء في مصر سنويا 961 جنيها، وتمتلك الدولة 170 مصنعا للدواء. وتدخل تلك الصناعة ضمن 9 قطاعات مستهدفة حددتها الحكومة للوصول بحجم الصادرات إلى 100 مليار دولار بحلول 2030، وفقا لمعاون رئيس هيئة الدواء المصرية حمادة شريف.
مجلس النواب على خط الأزمة
وتشهد السوق في مصر حاليًّا نقصا في المعروض من الأدوية والمستلزمات الطبية، وهو ما دفع مجلس النواب للدخول على خط الأزمة، إذ تقدمت النائبة سميرة الجزار بطلب إحاطة حول “اختفاء الأدوية” معتبرة أن الحكومة “تخطت الخط الأحمر للأمن القومي بتعرض المواطنين إلى خطر الموت”، جرّاء اختفاء أدوية مهمة. وأضافت أنها علمت من أصحاب صيدليات أن هناك نقصًا في الكثير من الأدوية، خصوصًا المستوردة.
وفي طلب إحاطة متصل، طالب النائب عادل عامر، بخطة بديلة للتعامل مع ملف الأدوية المستوردة أو نواقص الأدوية بشكل عام وتوفير هذه الأدوية بوجه عاجل، محذرًا من أن “العجز الكبير في الأدوية الخاصة ببعض الأمراض ومنها المزمن خلال الفترة الأخيرة وخاصة الأدوية المستوردة” يشكل تهديدًا كبيرًا لحياة المواطنين.
وفي طلب إحاطة ثالث، طالب النائب محمود قاسم، الحكومةَ باتخاذ جميع الإجراءات لحل أزمة نقص بعض الأصناف الدوائية بصفة عامة وأدوية مرضى الأمراض والغدة الدرقية بصفة خاصة، متسائلا “أين خطة الحكومة لتنفيذ تكليفات الرئيس عبد الفتاح السيسي لتعميق وتوطين صناعات الأدوية واللقاحات لتحويل مصر إلى مركز إقليمي كبير في هذه الصناعات الاستراتيجية لتحقيق الاكتفاء الذاتي؟”.
من جهته، وصف الدكتور جمال الليثي، رئيس غرفة صناعة الدواء باتحاد الصناعات، تلك الأزمة بـ”المقلقة”، التي بدأت تتزايد بوتيرة شديدة بداية من الشهرين الماضيين، مشددا على الحاجة إلى استيراد منتجات تامة الصنع، تقدر بنحو 250 مليون دولار. وقال إن عجزا في توفير أدوية بعينها يصل إلى 30%، يعدّ مؤشرا خطيرا في حال تفاقم الأزمة أكثر من ذلك.
اعتراف حكومي وترغيب في “البدائل”
ولم تنكر الجهات المعنية الأزمة، بدايةً من وزير الصحة خالد عبد الغفار، الذي أكد أن “هناك عددا من الأنواع تشهد نقصا في سلاسل الإمداد؛ إثر الحرب الروسية الأوكرانية وتوقف بعض المصانع العالمية، فضلا عن عدم القدرة على الاستيراد خلال التوقيت الحالي جراء أزمة العملة الصعبة، موضحا أن البدائل المحلية متوفرة بالأسواق.
وبحسب الوزير، تعد مصر من أكثر دول العالم استهلاكا للأدوية؛ نتيجة صرف الدواء العشوائي من الصيدليات، فوزارة الصحة وحدها تستهلك بنحو مليار دولار أدوية سنويا، بما يوازي 40 مليار جنيه، تقدم مجانا للمواطنين، فضلا عن أدوية القطاع الخاص والصيدليات الخاصة التي تمثل 55 % من حجم تداول الأدوية في سوق الدواء التي تصل إلى أكثر من 300 مليار جنيه.
واعتبر الوزير أن “اعتياد المريض اسما تجاريا محددا” يعقد الأزمة، موضحا أن التركيبة العلمية تعد الأهم وليس الاسم التجاري: “على سبيل المثال دواء الغدة الدرقية الناقص؛ عندنا 5 بدائل بنفس التركيبة العلمية وذات كفاءة قياسا بالمستورد، لكن الناس يريدون الدواء المستورد، الأمر يحتاج إلى بعض الوقت إلى حين الإفراج عن المواد الخام”.
كان رئيس الوزراء مصطفى مدبولي قد طالب البنك المركزي بضرورة وضع حلول فعالة للحد من تفاقم الأزمة، عبر توفير العملة الصعبة لاستكمال استيراد الأدوية والمواد الخام اللازمة للصناعة، خلال اجتماع مع أعضاء الغرفة، بحسب الليثي.
وأقرّ رئيس شعبة الأدوية بالاتحاد العام للغرف التجارية، علي عوف، بوجود نقص في بعض الأدوية بالسوق نتيجة عدم تدبير نقد أجنبي لانتظام عملية استيراد المواد الخام، لكنه قلل من تأثّر السوق بنقص هذه الأدوية نتيجة وجود العديد من البدائل. وأوضح أن مصر لديها إدارة كاملة لبحث إنتاج الأدوية ونقصها في السوق، مضيفا أن هذه الأزمة تتلخص في أن هناك “ثقافة خاطئة” لدى الأطباء والمرضى الذين يركزون على الاسم التجاري للدواء، على الرغم من أنّ هناك بدائل لا تقل كفاءة عنه، إلا أن ثقافة الشعب المصري تعتمد على الاسم التجاري، في حين أن المطبّق عالميًا هو الاعتماد على “المادة الفعالة” والاسم العلمي للدواء، مضيفًا أن منظمة الصحة العالمية تعرّف الدواء الناقص بأنه الدواء “الذي ليس له بديل أو مثيل”.
تقليل الاستيراد ودعم التوطين
وأشار عوف إلى آخر اجتماع عقدته الحكومة مع مسؤولي صناعة الدواء. في هذا الاجتماع جرى الاتفاق على ثلاث ملفات مهمة: تعزيز المخزون الاستراتيجي وتعميق التصنيع المحلي من الأدوية والمواد الخام، لتخفيض فاتورة الاستيراد، ومن ثم توفير الدولار، ودعم زيادة الصادرات المصرية من الدواء.
في الاجتماع، وجه رئيس الوزراء تعليمات للبنك المركزي بسرعة الإفراج عن المواد الخام والأدوية والمستلزمات الطبية، مع تخصيص 100 مليون دولار شهريا لقطاع الدواء لاستيراد المواد الخام ومستلزمات الإنتاج للمصانع، و150 مليون دولار شهريا لتوفير المستلزمات الطبية. هذا القرار يسهم في زيادة المخزون الاستراتيجي من الأدوية من 6-12 شهرا بدلا من 3-6 شهور حاليا مما يجنب الدولة مخاطر أي تقلبات خارجية.
وفي ما يتعلق بتوطين وتعميق التصنيع المحلي، هناك مصانع جديدة يجري إنشاؤها لإنتاج أدوية لأمراض مزمنة مثل مصنع لإنتاج أدوية الأورام، وآخر لإنتاج البنسلين يغطي نسبة 50% من الطلب المحلي بدلا من 10% سابقا.
وبحسب الدكتور محيي حافظ، عضو غرفة صناعة الأدوية، يمكن تقليل فاتورة الاستيراد بنحو مليار دولار، عبر التوسع في تصنيع الخامات الدوائية، وتصنيع الأدوية الحديثة والأورام والتكنولوجيا الحيوية.
ويمكن أن يتم ذلك من خلال تأهيل مصنع شركة النصر للصناعات الكيمياوية، الذي ينتج حاليا نحو 18 خامة دوائية، موضحا ضرورة التوسع في عمليات التصنيع والوصول إلى 55 خامة دوائية، لتصل نسبة تغطيتهم لاحتياجات مصانع الأدوية من الخامات لنحو 80%. وذلك بالإضافة إلى تطوير أحد المصانع الموجودة في صعيد مصر، الذي ينتج العديد من المضادات الحيوية، وهي حلول قد تستغرق عامًا ونصف العام على أقصى تقدير، ما ينعكس إيجابًا على الصناعة، وفقا للدكتور حافظ.
من جهته، شدد رئيس الوزراء على أن هذا هو التوقيت الأنسب للعمل على توطين وتعميق التصنيع المحلي للدواء، مؤكداً أن الدولة مستعدة في الوقت الحالي لتقديم أية مُحفزات أو تيسيرات لهذا القطاع وغيره من القطاعات، وذلك وصولاً لتحقيق الأهداف المرجوة اقتصادياً، وكذا تأميناً لمختلف الاحتياجات والمتطلبات لمثل هذه القطاعات الحيوية.
الأزمة ليست في مصر وحدها
عربيًا واجه الأزمة كلٌّ من الكويت ومصر وتونس. ومع ذلك، فإنّها تبدو عالمية، إذ أعلنت المفوضية الأوروبية في أبريل الماضي، خطتها الشاملة لإصلاح منظومة الصناعة الصيدلية، لمواجهة النقص الحاد في الأدوية الذي تواجهه الدول الأوروبية. وعلى رأس بنود تلك الخطة تطوير صناعة الدواء الأوروبية، وإجبار شركات الأدوية على حماية نفسها من النقص.
ووفق استطلاع للمجموعات الصيدلانية الأوربية، فإن ربع دول القارة تشهد نقصاً في 600 عقار على الأقل، و20% أعلنت بأن من 200 إلى 300 عقار فقدوا من أسواقها، وثلاثة أرباع هذه الدول أكدوا بأن شح الدواء هذا العام أكبر من سابقه.
الأمينة العامة للمجموعة الصيدلانية في الاتحاد الأوروبي، إيلاريا باساراني، وصفت الوضع بأنه “سيئ للغاية”، فالنقص “يشمل جميع البلدان ويطول جميع أنواع الأدوية”. وتضيف المسؤولة الأوروبية، في حديثها لـ”يورونيوز”، قائلة: “على مدى السنوات السبع أو الثمانية الماضية شهدنا تزايد المشكلة، لكن اليوم أسباباً أساسية تزيد من تأزم الوضع”.