مصر

أزمة النقل العام في المحافظات.. عدالة مكانية غائبة رغم الوعود

تعاني مدن وقرى المحافظات من فجوات كبيرة في خدمات النقل الجماعي، بينما تتحرك حافلات النقل العام بانضباط نسبي في شوارع العاصمة، تضع ملايين المواطنين يوميًا أمام مشهد مزمن من الانتظار، والاعتماد على وسائل غير رسمية، وارتفاع في التكلفة اليومية للتنقل. وبين الأرقام الرسمية والمبادرات الحكومية، يظل السؤال مفتوحًا: هل تعكس منظومة النقل في مصر عدالة مكانية حقيقية؟

وتشير أحدث النشرات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى وجود تركّز واضح لخدمات النقل العام داخل القاهرة الكبرى مقارنة بباقي المحافظات، فبينما يتجاوز عدد أتوبيسات هيئة النقل العام بالقاهرة الكبرى 3,000 حافلة تخدم نحو 3.5 مليون راكب يوميًا، لا تمتلك غالبية المحافظات الأخرى سوى أساطيل محدودة تديرها شركات محلية أو تعتمد على القطاع غير الرسمي، مثل سيارات الربع نقل، والميكروباصات.

وفي تصريحات رسمية سابقة، كشف الجهاز المركزي أن عدد الركاب المستخدمين للنقل الجماعي في القاهرة يناهز نصف إجمالي مستخدمي هذه الوسائل في مصر، مما يعكس اختلالًا كبيرًا في التوزيع الجغرافي للخدمة.
في جولة ميدانية قامت بها الجريدة بمحافظتي المنيا وسوهاج، اشتكى المواطنون من ندرة الحافلات الرسمية، واضطرارهم للاعتماد على وسائل غير آمنة أو باهظة التكلفة.

يقول السيد إبراهيم، موظف من مركز مغاغة: “المواصلات الرسمية لا تدخل القرى، فنضطر لركوب ربع نقل أو توك توك، وده مكلف جدًا، خصوصًا للطلاب والموظفين الذين يتنقلون يوميًا”.

ويضيف سائق ريفي من محافظة أسيوط: “طلبات إحلال السيارات النقل تم رفضها بدون توضيح، ونحن نواجه أعطال يومية وزيادة في أسعار قطع الغيار والوقود”.

رغم الاعتراف الرسمي بوجود فجوة في الخدمات، إلا أن الحلول لا تزال محدودة في بعض المناطق، وزارة النقل أطلقت في السنوات الأخيرة مبادرة تشغيل خطوط “سوبر جيت” بين المحافظات، وبدأت تطوير بعض مشروعات النقل بالمشاركة مع القطاع الخاص، إلا أن هذه المشروعات تركزت بشكل كبير في المدن الكبرى مثل الإسكندرية وبورسعيد، دون امتداد فعلي إلى المناطق الريفية والنائية.

وأعلنت الحكومة في مايو الماضي عن إلغاء 50% من المستحقات المالية على شركات النقل الجماعي لعام 2024، في محاولة لتخفيف الأعباء وتحفيز توسع القطاع، إلى جانب خطة لتطوير ترام الرمل في الإسكندرية بقرض قيمته 9 مليارات جنيه.

كما تضمن “خطة المواطن” للعام المالي 2024–2025، وفقًا لوزارة التخطيط، تخصيص أكثر من 1.3 مليار جنيه لمحافظة أسيوط وحدها لتطوير الطرق وربط المدن بمراكزها، إلى جانب 49 مليار جنيه مخصصة لمحافظة الجيزة ضمن مشروعات “حياة كريمة”، والتي تشمل تحسين شبكات النقل.

في سياق تقييم المنظومة الراهنة للنقل العام وتباينها بين القاهرة وباقي المحافظات، يؤكد عدد من خبراء التخطيط والنقل الحضري أن الأزمة لا تنبع فقط من ضعف الإمكانات، بل من غياب الرؤية المكانية العادلة وتركّز الاستثمار في العاصمة على حساب الأقاليم. ففي تصريحات سابقة، أوضح الدكتور أسامة عقيل، أستاذ هندسة الطرق بجامعة عين شمس، أن خسائر القاهرة فقط بسبب تردي منظومة النقل تجاوزت 40 مليار جنيه سنويًا، مشددًا على أن «تسهيل حركة الناس» ينبغي أن يكون هو الهدف، لا فقط تسهيل حركة المركبات، وهو ما يضع المحافظات خارج دائرة التخطيط الأساسي، حيث تفتقر حتى إلى شبكات مواصلات مستقرة.

وفي سياق متصل، أشار الدكتور أحمد الحكيم، أستاذ تخطيط النقل بجامعة الأزهر، إلى أن الدولة تأخرت لسنوات في معالجة اختناقات النقل، ورغم محاولات الإصلاح الجارية، إلا أنها تعتمد إلى حد كبير على دعم خارجي ومنح دولية، ما يجعل استدامة التطوير محل تساؤل. أما عن المبادرات الحديثة مثل تخصيص حارات للنقل العام، فيرى أنها لا تزال في طور التجربة، ويصعب تعميمها قبل تقييم نتائجها.

من جانبه، يرى الدكتور مصطفى صبري، أستاذ هندسة المرور بجامعة عين شمس، أن بعض الحلول المقترحة مثل التوسع في النقل النهري “غير واقعية” في ظل عدم توافر الأسطول الكافي، مؤكدًا أن التركيز يجب أن ينصب على استكمال شبكات المترو خاصة الخطوط الجديدة التي أثبتت كفاءتها في التخفيف من الضغط المروري في العاصمة.
وتشير هذه الآراء مجتمعة إلى ضرورة انتهاج سياسة متوازنة للتخطيط الحضري تُعيد توزيع الموارد الاستثمارية على المحافظات، وليس فقط العاصمة، إذا كانت الدولة جادة في تحقيق العدالة المكانية في خدمات النقل العام.

فأزمة النقل العام في المحافظات تعكس صورة أوسع لاختلال التوزيع الجغرافي للموارد والخدمات في مصر، ورغم الجهود الحكومية الملحوظة، لا تزال هناك حاجة ملحة لتوسيع قاعدة التمويل وتطوير نظم الإشراف والرقابة على خدمات النقل الجماعي في المحافظات، مع منح أولوية للمناطق الأشد فقرًا وتهميشًا.

فالنقل ليس مجرد وسيلة للتنقل، بل حق اجتماعي واقتصادي ينعكس على فرص العمل، والوصول للتعليم والخدمات الصحية، والتكامل بين المركز والأطراف، والعدالة المكانية تبدأ من الطريق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *